
يحيي الجزائريون اليوم (5 يوليو/ تموز 2025)، أعزّ الذكريات وأغلاها. إنها الذكرى الثالثة والستّون لاستقلال السيادة الوطنية واستردادها، وإحياء الدولة الجزائرية. فبماذا يرتبط إحياء ذكرى الاستقلال؟ وهل يقتصر على الاحتفالات الرسمية، أم أن ذكرى الاستقلال لحظةً تاريخيةً لتقييم مسيرة الجزائر منذ 1962، ورصد حاضرها، بالتوقّف عند أكثر الإنجازات التنموية والاقتصادية والسياسية والمجتمعية أهميةً، وعند التحدّيات التي واجهتْ مسيرةَ الجزائر منذ 1962؟ أم أن ذكرى الاستقلال هي كذلك مناسبة للتفكير في مستقبل الجزائر، ولا سيّما مستقبل الأجيال الجديدة من الجزائريين؟ وهل ذكرى الاستقلال مناسبة لمناقشة علاقات الجزائر الدولية، لا سيّما علاقاتها مع المُستعمِر، والجوار المغاربي والعربي والمتوسّطي والأفريقي والقوى العظمى، في ظلّ التشكّل المتسارع لخريطة العلاقات الدولية في زمن الأزمات؟
ذكرى الاستقلال، التي تحيي ذكرى ميلاد الدولة الجزائرية الجديدة، أو الجمهورية الجزائرية الأولى، وتبنّي وحدتها، هي من أقوى مسائل الذاكرة الجماعية للجزائريين
ذكرى الاستقلال، التي تحيي ذكرى ميلاد الدولة الجزائرية الجديدة، أو الجمهورية الجزائرية الأولى، وتبنّي وحدتها، هي من أقوى مسائل الذاكرة الجماعية للجزائريين. لذا، لا يمكن فصل إحياء ذكرى الاستقلال عن تأسيس جسد سياسي قوي من خلال ضمان التواصل التاريخي بين الأجيال، وتعزيز المشاعر الوطنية. لكن الهدف من إحياء ذكرى الاستقلال ليس مجرّد تأكيد حقيقة الوحدة السياسية، بل يجب إنتاجها كذلك. وهو ليس احتفالات بقدر ما هو يوم يُظهر مدى أهمية أن يتذكّر الجزائريون معاً ماضيهم أمّةً، فالماضي المشترك، رغم تحدّياته، هو الذي يمكّن الجزائريين من تقاسم المصير المشترك، لذا يجب أن يثير الإحياء أسئلةً حول علاقة المجتمع ومؤسّساته بالماضي والحاضر والمستقبل، لأن إحياء ذكرى الاستقلال ليس مجرّد تذكيرٍ بالماضي، بل حالة زمنية تعيد ترجمة الحدث الماضي إلى منظور مستقبلي، وذلك لمكانة هذا البُعد في الذاكرة، من خلال إنتاج سيناريوهات زمن لم يأتِ بعد. ويتطلّب إحياء تلك الذكرى، بالإضافة إلى الاحتفالات الرسمية الضرورية، التقييم الموضوعي لما أُنجز، وما لم ينجز، من دون مبالغةٍ أو غلو. نعم، لقد حقّقت الجزائر عبر مقاربات تنموية متعدّدة إنجازات عديدة لا يمكن إنكارها.
عرفت الجزائر في العقود الستّة الماضية تحوّلات سكّانية وعمرانية واجتماعية وسياسية متعدّدة، وترتبت عن هذه التحوّلات ضرورةُ مرافقة الواقع الجديد بخططٍ وبرامجَ وتدخّلاتٍ مؤسّساتية مختلفة. فعلى سبيل المثال، ترتّبت عن توسّع عدد سكّان الجزائر (منذ الاستقلال) ضرورة توفير خدمات عديدة للمواطنين، خصوصاً المرتبطة بتوفير فرص تعليمية للأجيال الجديدة من الجزائريين، وتوفير فرص علاج مجّانية ومناسبة، وضمان تغطية اجتماعية للجزائريين، يضاف إلى ذلك توفير مختلف أنواع السكن لشرائح واسعة منهم. فاليوم، توفّر المنظومة التعليمية مقاعدَ تعليميةً لحوالي 16 مليون جزائري في مختلف المستويات التعليمية. أمّا القطاع الصحّي، فإنه يوفّر خدماته في مختلف ولايات البلاد، ولو بمستوياتٍ متباينة. واستفاد قطاع السكن من برامج مختلفة، من خلال توفير مئات آلافٍ من المساكن لفئات مختلفة من الجزائريين. واستفاد الشباب الجزائري من فرص تمكين مختلفة من خلال برامج تشغيل الشباب والاستثمار، يضاف إلى ذلك دعم الدولة المستمرّ للمؤسّسات الصغيرة والمتوسطة والمقاولاتية، وللمؤسّسات الناشئة، ناهيك عن دعم الدولة المبادرات الفردية والجماعية للمشاريع الفلاحية والصناعية في مختلف ولايات الجزائر، من أجل إيجاد فرصٍ تنمويةٍ متقاربةٍ بين مختلف ولايات الجزائر، للقضاء على التفاوت التنموي، بما في ذلك القضاء على أماكن الظلّ.
الهدف من إحياء ذكرى الاستقلال ليس مجرّد تأكيد حقيقة الوحدة السياسية، بل يجب إنتاجها كذلك
تشهد مسيرة الفرص التنموية منذ الاستقلال على سعي الدولة ومؤسّساتها إلى المحافظة على الجانب الاجتماعي لها، بالعمل على توفير ظروف حياتية ومعيشية كريمة للجزائريين. ولكن هل تتوافق التنمية التي تحقّقت فعلاً مع حجم التطلعات، وحجم المبالغ العمومية التي استُثمرت؟… يجب أن يكون إحياء ذكرى الاستقلال محطّةً للتقييم الموضوعي للإخفاقات والتحدّيات، خصوصاً المرتبطة بواقع الاقتصاد الوطني، الذي لا يزال يعاني من تحدّيات مختلفة، يضاف إلى ذلك تضاؤل فرص توظيف الشباب، إذ لا يزال آلاف الجزائريين من الجنسَين، ولا سيّما الشبان وخرّيجي التعليمين العالي والثانوي، يبحثون عن وظائف عمل لائقة في مختلف ولايات الوطن. يجب أن يكون الإحياء فرصةً لمختلف المراجعات المؤسّساتية والإدارية والسياسية والاقتصادية المطلوبة، من أجل توسيع فرص نجاح العمل المؤسّسي، والمضي نحو مسيرة تنموية عادلة تدمج أكثر ممّا تُقصي. لكنّ المراجعات تفرض أيضاً اعتماد رؤية تنموية وطنية، متوسّطة وبعيدة المدى، بعيداً من التدخّلات الآنية.
ولا تقتصر المراجعات في ذكرى إحياء الاستقلال على الجانب المحلّي فقط، بل إنها تتوسّع لتشمل أيضاً التوقّف عند طبيعة وتركيبة العلاقات الخارجية للجزائر. وشبكة (وخريطة) العلاقات الخارجية للجزائر اليوم تختلف عنها بعد الاستقلال، وهذا ليس في حدّ ذاته استثناءً، لأن بنية العلاقات الدولية هي دوماً في تشكّل مستمرّ، خصوصاً في زمن انهارت فيه التحالفات التقليدية بين دول الجوار، وبين الدول العربية، وبين دول الجنوب، وبين دول الشمال والجنوب، فاتحةً الباب أمام تحالفات جديدة تحكمها استراتيجية جديدة. لذا لا يمكن فصل خريطة العلاقات الخارجية الجديدة للجزائر مع دول الجوار (بما في ذلك علاقات الجزائر مع بعض الدول المغاربية والعربية والأفريقية وفرنسا) عن التشكّل المتواصل لشبكة العلاقات الدولية اليوم. ولا يمكن اعتبار فتور العلاقات الخارجية للجزائر مع بعض دول الجوار عائقاً استراتيجياً.
يجب أن يكون احياء ذكرى الاستقلال محطّةً للتقييم الموضوعي للإخفاقات المرتبطة بواقع الاقتصاد الوطني
تختلف الجزائر اليوم في بنيتها السكّانية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل في علاقاتها الخارجية، عن جزائر ما بعد الاستقلال، وجزائر مطلع الألفية الثانية، لذا يتطلّب إحياء ذكرى الاستقلال، بعد مرور 63 سنة، وقفةً متأنّيةً من أجل التوقّف عند مختلف المراجعات المطلوبة، وإقرار الإصلاحات الضرورية، من أجل رسم معالم جزائر المستقبل. فالجزائر اليوم، التي وُلِد معظم سكّانها في العقود الثلاثة الماضية، وعرفت ديناميات اجتماعية وثقافية، بل حتى قيمية، تختلف عن مرجعيات الآباء والأجداد، تتطلّب اعتماد لغة الحوار في إدارة الشأن العام من أجل إدماج المواطنين في الحياة العامّة. يضاف إلى ذلك تشجيع المبادرات المحلّية في إدارة الشأن العام. ففي زمن تتعدّد فيه المخاطر والتحدّيات تتطلّب تنمية المجتمع وإنجاح العملية السياسية تجاوز الممارسات التقليدية، والتوجّه نحو نظامٍ يقوم على اعتماد الحوار أداةَ عمل وتواصل مع المواطنين، وإحداث انفتاحٍ في العمل السياسي والمؤسّساتي يقوم على روح المبادرة والشجاعة السياسية. لهذا، يمكن اعتبار الحوار والشجاعة السياسية من أهم مقوّمات نمط حكم الغد ودعائمه، ومن أجل تهيئة أفضل الظروف السياسية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية للأجيال المقبلة من الجزائريين، الذين سيصل عددهم لنحو 61 مليوناً عام 2050، وفقاً للأمم المتحدة، فمن غير المقبول أن تُورّث الممارسات المؤسّساتية الحالية للأجيال القادمة من الجزائريين. هذا التوجّه سيقلّل لا محالة من تدنّي الثقة بين الحكام والمحكومين، كما يساهم في التوجّه نحو تطبيع تدريجي للعلاقات بين المؤسّسات السياسية والمواطنين الجزائريين، ويبعد الجزائر عن أزماتٍ محتملة، ويقلّل من حجم التوتّرات.
إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية والاجتماعية، كما ورد في بيان الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني 1954، وميلاد مجتمع جديد، هما جزءان في مشروع متواصل، يتطلّب مشاركةَ واجتهادَ أجيال مختلفة من الجزائريين، ولا يمكن فصل إحياء ذكرى الاستقلال عن بلورة رؤية مستقبلية جديدة، وصياغة عقد اجتماعي جديد، ينطلق من تحدّيات الوضع الجديد وإسقاطاته المستقبلية. لهذا، يجب أن يكون إحياء عيد الاستقلال فرصةً للمراجعة والتقييم الموضوعي الرزين، وفرصةً لفتح حوار حقيقي وشامل بين الجزائريين، وبين الجزائريين ومختلف مؤسّسات الدولة.
المصدر: العربي الجديد