
حين نجد أنفسنا مضطرين إلى الدفاع عن خرائط الاستعمار، لا حبًّا بها، بل خشيةً من بدائل واشنطن. في أواخر شهر أيار/مايو الماضي، أدلى توماس بارّاك، مبعوث الإدارة الأميركية إلى سوريا، بتصريح أثار كثيراً من التساؤلات والشكوك، حين وصف اتفاقية سايكس – بيكو الشهيرة بأنها “خطأ استعماري جسيم”، مضيفًا أن الأجيال دفعت ثمنًا باهظًا نتيجة لها، وأن الولايات المتحدة لا تنوي تكرار تلك الحقبة، فقد “انتهى زمن التدخل الغربي في الشرق الأوسط”، على حدّ تعبيره.
ورغم أن هذه الكلمات تحمل ظاهرًا خفيفًا يوحي بالمراجعة والاعتراف بالذنب، إلا أنها – من حيث المضمون السياسي – تبدو ثقيلة ومراوغة. فمن يعرف جيدًا تاريخ الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، يدرك أن مثل هذا “الاعتراف” لا يسبق عادةً مشروعًا عادلًا أو خطوات نزيهة، بل غالبًا ما يكون المؤشر الأول على مخطط تفكيكي جديد يُحاك وفق منطق المصالح لا المبادئ، وبأدوات تبدو حديثة ولكنها لا تقل عن سابقاتها قسوة وعبثًا بالمصائر.
حين تعترف واشنطن بالندم… لا تطمئن، هذا وحده كفيل بأن يجعلنا في قلق!
ليس من السهل الوثوق بـ”ندم” واشنطن على اتفاقية سايكس – بيكو، خصوصًا حين يترافق هذا الندم مع شعارات من قبيل “الديمقراطية المحلية”، و”اللامركزية الإدارية”، و”الشراكات الإقليمية”.
هذه المفردات لم تعد مغرية أو مُبشّرة في وعينا العربي، بل أصبحت قرينة لمشاريع مشبوهة أسهمت في تدمير استقرار دول مثل العراق وليبيا، تحت غطاء محاربة الاستبداد أو إعادة بناء الدولة.
الأمر الأخطر في تصريحات بارّاك ليس توصيف الاتفاقية ذاتها بالإمبريالية – فهذا بات أمرًا بديهيًا في أدبيات الفكر السياسي العربي – بل أن تقدم الولايات المتحدة نفسها كقوة تجاوزت أخطاء الاستعمار الأوروبي، في حين تواصل ترسيخ نفوذها في المنطقة، وترسم خرائط جديدة بطريقة غير معلنة، لكنها أكثر فوضوية من خرائط سايكس – بيكو ذاتها.
من المهم التذكير بأن الولايات المتحدة لم تكن يومًا تعارض مصالحها لهذه الخرائط، بل على العكس، كانت من أبرز المستفيدين من النظام الذي أفرزته سايكس – بيكو بعد الحرب العالمية الثانية.
المفارقة المؤلمة: الدفاع عن حدود ظالمة خشية البدائل
المفارقة القاسية التي نعيشها اليوم، هي أننا – نحن شعوب المشرق – نجد أنفسنا في موقع الدفاع عن خرائط رسمها الاستعمار البريطاني والفرنسي قبل أكثر من قرن، لا لأننا نحبّها أو نؤمن بعدالتها، بل لأن البدائل التي تلوّح بها الولايات المتحدة تبدو أكثر خطورة واضطرابًا وهشاشة.
فرغم كل ما يمكن قوله عن هشاشة الكيانات التي أفرزتها سايكس – بيكو، إلا أن هذه الاتفاقية – بطريقة أو بأخرى – أرست إطارًا قانونيًا ونفسيًا لقيام الدولة الوطنية، وانطلقت منها حركات الاستقلال، وتكوّنت هويات سياسية ومؤسسات، حتى وإن كانت ضعيفة في بنيتها أو فاشلة في تمثيلها.
أما ما يجري اليوم، فهو دفع مباشر أو غير مباشر نحو تفكيك الدول إلى كيانات هشة خاضعة لمنطق السيطرة المحلية بدلاً من منطق السيادة الوطنية.
مشاريع واشنطن الجديدة: فوضى باسم القيم
تحت لافتة “إنهاء الاستعمار”، نشهد اليوم محاولة تدويل للفوضى أكثر منها محاولة لبناء دول. المساحات التي تُفرّغ من سلطات مركزية، تُملأ بالميليشيات، والجماعات العابرة للحدود، ومشاريع تقف وراءها مصالح خارجية.
وباسم “اللامركزية”، يُراد تثبيت واقع جديد يمنع حتى مجرد التفكير في استعادة وحدة وطنية.
أما “الشراكات الإقليمية”، فتحوّلت إلى تحالفات ظرفية لا تستند إلى احترام الإرادة الوطنية، بل تستثمر في الانقسامات الداخلية، وتكرّس التبعية بدل السيادة.
أميركا ليست بريئة… ولم تكن يومًا متضررة من هذه الخرائط
من المهم التذكير بأن الولايات المتحدة لم تكن يومًا تعارض مصالحها لهذه الخرائط، بل على العكس، كانت من أبرز المستفيدين من النظام الذي أفرزته سايكس – بيكو بعد الحرب العالمية الثانية. فقد دعمت قيام دولة إسرائيل، وتغاضت عن تقسيمات غير عادلة، واستثمرت في الحدود كأدوات ضغط على الأنظمة، واستخدمت النفوذ كوسيلة للابتزاز السياسي.
واليوم، حين يتطلب تنفيذ سياساتها ابتداع السبل، تبدأ بالحديث عن “مشاريع بديلة”، وكأنها تقدم خلاصًا نزيهًا، في حين تحمل في جعبتها فوضى خلاقة ومجتمعات مفككة.
التاريخ القريب، وتحديدًا في العقدين الأخيرين، يقدم شواهد واضحة على أن الهدف من هذه المشاريع لم يكن أبدًا بناء دول قوية وموحدة، بل إعادة ترتيب النفوذ بطريقة تضمن بقاء السيطرة الأميركية، ولو على حساب الاستقرار والسيادة والكرامة الوطنية.
الحلم بخريطة وطنية جديدة لسوريا يجب ألا يكون مشروعًا تكتبه عواصم الغرب، ولا خطة تُصاغ في جنيف أو أي مدينة أخرى، بل يجب أن ينبع من الداخل السوري
الواقعية والحذر: ضرورة لا تعني الاستسلام
من هنا، لا بد من التحلي بالواقعية والحذر، من دون أن يعني ذلك الانكفاء أو الاستسلام. لسنا في موقع من يدافع عن سايكس – بيكو كمنجز حضاري، ولكننا مضطرون – في هذه اللحظة التاريخية – إلى التشبث ببعض ما خلّفته من حدود سياسية، لأنها – وببساطة – الخيار الأقل سوءًا.
فالدولة، حتى في ضعفها، تبقى الإطار الذي يمكن من خلاله إصلاح الخلل، أما تفتيت الدولة، فلا يقود سوى إلى كيانات مشوّهة لا مستقبل لها، ولا قدرة لها على الاندماج أو النهوض.
مستقبل المنطقة وسوريا لا يجب أن يُرسم في الخارج
الحلم بخريطة وطنية جديدة لسوريا يجب ألا يكون مشروعًا تكتبه عواصم الغرب، ولا خطة تُصاغ في جنيف أو أي مدينة أخرى، بل يجب أن ينبع من الداخل السوري، من خلال عقد اجتماعي جديد يُعيد الاعتبار للمواطنة والعدالة والتمثيل السياسي الحقيقي.
هذا الطريق، وإن بدا طويلًا، هو الطريق الوحيد نحو خريطة تحترم السوريين وتعبّر عنهم.
أما أن تُفرض علينا هندسات سياسية صيغت في دهاليز السياسة الدولية، ثم تُسوّق لنا كحلول أخلاقية، فتلك ليست إلا إعادة إنتاجٍ لمشروع الهيمنة، وإن ارتدى لباسًا مختلفًا.
لا نثق بالندم الأميركي… ولا يخدعنا غطاؤه الأخلاقي
نعم، كانت سايكس – بيكو ظلمًا استعماريًا صارخًا، لكن إسقاطها لن يتم من خلال بيانات الندم الأميركية، بل بجهد وطني داخلي يرفض التفكيك كما يرفض التبعية.
فالفرنسيون والبريطانيون لم يسقطوا هذه الاتفاقية، ولن تفعلها أميركا أيضًا لمصلحة شعوب المنطقة.
بل إن إصرارها على صياغة جغرافيا جديدة للمنطقة هو الأسوأ من سايكس – بيكو.
حتى إشعار آخر، قد لا نملك خريطة مثالية، ولكننا نعرف جيدًا أن تسليم الأمر لخرائط واشنطن ليس حلاً، بل بداية لحقبة أكثر ظلمة.
المصدر: تلفزيون سوريا