
في قلب مواجهة ميدانية بين إيران وإسرائيل، يجد العرب أنفسهم محاصرين بجبهتين تتنازعان الهيمنة على الإقليم، بينما تتآكل قدرتهم على البقاء خارج مرمى النيران.
هذه ليست حربًا بالوكالة فحسب، بل اختبار وجودي لمكانة العرب في معادلة أمنهم الإقليمي، حيث تُرسم الخطوط الحمراء فوق أجوائهم، وتُخاض المعارك على أراضيهم، وتُعقد التفاهمات بمعزل عنهم. لم يعد الحياد مجديًا، ولا الصمت ممكنًا.
فإيران تُقاتل من داخل العمق العربي عبر شبكة حلفاء ووكلاء، بينما تصوغ إسرائيل أمنها من فوق الجغرافيا العربية. بين منطق “الردع المسبق” الإسرائيلي و”الردع الميداني” الإيراني، تضيع السيادة العربية وتُختزل الجغرافيا إلى ممرات أو ساحات. العرب يسيرون في صراع لا يملكون مفاتيحه، لكنه يرسم مستقبلهم. يحاولون وضع المقاربات الممكنة بالصمت أمام غياب المشروع، ويستعرضون عبر الشاشات مخاطر الانفجار الكامل. إنها لحظة مفصلية، لا تقبل التردد: إما أن ينهض العرب باستراتيجية استباقية، أو تُفرض عليهم شروط القوة من دون استئذان.
إسرائيل ترى في المشروعين العربي والإيراني تهديدين مختلفين من حيث الطبيعة، لكنهما يتقاطعان في تقويض رؤيتها للأمن الإقليمي. فالمشروع الإيراني يُقرأ إسرائيلياً كتهديد وجودي، نووي وعقائدي، يستهدف التفوق الإسرائيلي المباشر. أما المشروع العربي، حين يتماسك أو يبدي نزعة استقلال، فتتعامل معه إسرائيل كخطر سياسي طويل الأمد يعيق هيمنتها على المنطقة وتنفيذ مشروعها الصهيوني. لذلك، تسعى تل أبيب إلى تفكيك العمق العربي عبر التطبيع الانتقائي من جهة، وتطويق النفوذ الإيراني من جهة أخرى. فأي مشروع عربي جامع يُعامل كقوة ممانعة، بينما يُستثمر الانقسام العربي لضرب طهران دون أن يتوحد العرب على موقف سيادي يُحاصر الهيمنة الإسرائيلية أو التمدد الإيراني.
إسرائيل ترى في إيران خصماً استراتيجياً شاملاً، يتجاوز حدود النزاع التقليدي إلى مستوى تهديد وجودي متعدد الأبعاد. فإيران، بمنظور المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، تجمع بين العقيدة الثورية والسعي لحيازة سلاح نووي يشكل تهديداً مباشراً لإسرائيل. مشروع طهران النووي يُعد “نقطة اللاعودة”، واستكماله يُفسر في تل أبيب كمحرك لتغيير موازين القوة في المنطقة. لذلك، تعتمد إسرائيل نهج الضربات الاستباقية، وتتمسك بعقيدة “السلام بالقوة”، معتبرة أن الردع وحده لا يكفي، بل يجب تحطيم القدرة الإيرانية قبل أن تُترجم إلى نتائج ميدانية. إيران هي خصم لا يُحتوى، بل يجب تفكيك مقوماته الاستراتيجية وفق المنطق الإسرائيلي.
التحول من الاغتيالات إلى المواجهة المباشرة
بدأت إسرائيل تطبيق هذا النموذج منذ سنوات عبر حرب الظل: اغتيال العلماء الإيرانيين، بدءًا من مجيد شهرياري إلى محسن فخري زاده، ثم عبر هجمات سيبرانية مركّزة استهدفت منشآت نووية حساسة مثل نطنز وأراك. لم تكن هذه العمليات تسعى لتغيير شامل، بل لخلق حالة استنزاف مستمرة تمنع إيران من تجاوز ما تصفه تل أبيب بـ “الخط الأحمر”.
توسعت هذه الحرب لاحقًا إلى ضرب الأذرع الإقليمية لطهران – في سوريا ولبنان والعراق – بهدف تعطيل ما يمكن وصفه بـ “الجغرافيا الإيرانية الممتدة”. عقيدة الجيش الإسرائيلي أصبحت ترتكز على “الضرب الوقائي” دون الحاجة لتبني الفعل، وهو ما انعكس في أكثر من 1500 غارة على أهداف مرتبطة بإيران في سوريا وحدها خلال العقد الماضي.
ومع تعقّد الموقف النووي وارتفاع ثقة إيران بإمكانياتها الدفاعية والهجومية، قررت إسرائيل الدخول في المرحلة الرابعة والأكثر خطورة: الاشتباك المباشر. الضربة الأخيرة، بغض النظر عن حجمها أو نتائجها العسكرية، جاءت كمحاولة لتكريس مبدأ أن إسرائيل تحتفظ بحق الضربة الاستباقية في العمق الإيراني متى شعرت بأن “النافذة الزمنية للإجهاز على الخطر” قد بدأت تُغلق. طبعاً فرضت هذه المعادلة كثير من الأسباب بالنسبة لإسرائيل، منها انكفاء إيران عن الإقليم بعد تقليم أظافرها في سوريا ولبنان والعراق، وكذلك الحسم الأميركي الذي طرحه ترمب وإدارته بالحديث عن اتفاق عبر مفاوضات في سلطنة عمان، ومهلة الستين يوماً التي منحها لطهران. بالإضافة إلى الضغط الذي يمثله ملف قطاع غزة المدمّر الذي مارست فيه إسرائيل إبادة جماعية وتسعى لتطبيق التطهير العرقي والتهجير الجماعي لسكانه.
القوة وسيلة لإعادة تشكيل الواقع
السلوك الإسرائيلي ينبع من منظومة أيديولوجية–عسكرية يتبنّاها صناع القرار الإسرائيليون وعلى رأسهم بنيامين نتنياهو، الذي وصف البرنامج النووي الإيراني بأنه خطر وجودي لا يخضع للتفاوض أو التأجيل. ولهذا، فإن فشل الضربة الواحدة لا يعني إعادة تقييم الجدوى، بل فقط تعزيز القناعة بأن الضربات المتكررة هي وحدها القادرة على تحقيق الهدف في التدمير. في هذا السياق، يمكن تلمُّس عودة منطق “عقيدة الضاحية” – التي طُوّرت أثناء حرب لبنان 2006 – لتصبح مرجعية أساسية في السلوك الإسرائيلي العسكري، من خلال استخدام قوة نارية مفرطة ضد العمق المدني أو البنية الحيوية لخلق حالة من الرعب تؤدي إلى تغيير سلوك الخصم. وهو ما نراه الآن في استهداف المدن الإيرانية مباشرة بعد فشل منظومة الردع غير المباشرة.
إسرائيل تدرك أن المواجهة مع إيران لن تُحسم في ضربة واحدة، وأن طهران تمتلك بنية ردع متعددة المستويات. ومع ذلك، فإن المؤسسة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية مستعدة – بل مهيّأة نفسيًا – لـ خوض معركة استنزاف طويلة الأمد. الهدف ليس فقط تحجيم البرنامج النووي، بل كسر إرادة إيران على الاستمرار فيه، حتى وإن كلف الأمر إعادة هندسة المشهد الإقليمي بأكمله. بمعنى آخر، المبدأ الصهيوني لم يعد خطابًا دعائيًا، بل محرّكًا فعليًا لاستراتيجية تراكم القوة، وهو ما يجعل أي تسوية مرحلية لا تُفضي إلى نزع القدرات النووية الإيرانية مجرد “فاصل زمني” في رحلة طويلة من التصعيد المستمر.
الصراع أداة هندسة إقليمية
إسرائيل لم تعد تتعامل مع إيران بوصفها خصمًا بعيدًا، بل بوصفها مهددًا داخليًا للمنظومة الأمنية الداخلية. وبالتالي فإن المنطق السائد في تل أبيب اليوم هو: الصراع ضرورة استراتيجية، لا خيارًا اضطراريًا. ولذلك، فإن كل ضربة، وكل اشتباك، وكل تصعيد، هو جزء من مشهد أكبر يراد له أن يُعيد ترسيم حدود القوة في المنطقة، حتى لو تطلّب الأمر الانزلاق إلى حرب واسعة. أو دفع أطراف أخرى تحت أي ظرف إلى الدخول في المواجهة.
هذا ما يجعل المواجهة الحالية أخطر من سابقاتها: إنها ليست رد فعل، بل تجسيد ممنهج لمبدأ قديم لا يزال يحكم العقل الصهيوني: القوة لا تُمارس فقط للدفاع، بل لإعادة تعريف الواقع وفق موازين إسرائيلية خالصة. ففي العقل الإسرائيلي السياسي والأمني، سقف المفاوضات ليس مسألة مرونة أو تكتيك، بل صيغة نهائية غير قابلة للتأويل. تل أبيب لا ترى في التفاوض مع إيران وسيلة للوصول إلى تسويات مرحلية أو تفاهمات تكتيكية، بل أداة لإجبار طهران على الانصياع الكامل لشروط الردع الإسرائيلي. في هذا السياق، ما يُسمّى “المفاوضات” ليس سوى شكل من أشكال الضغط، لا منصة لتنازلات متبادلة. والسؤال هنا: على ماذا سيتفاوض الأطراف إذا ما جلسوا إلى طاولة المفاوضات؟، أعتقد أن ملف التطبيع أو الاعتراف المتبادل “الإيراني بإسرائيل” و “الإسرائيلي بحق إيران بالطاقة النووية السلمية تحت إشراف دولي” سيكونان قطبان أساسيان في أي عملية مفاوضات مقبلة بعد انتهاء هذه الحرب التي تسعى إدارة نتنياهو لإطالة أمدها، وقد بدأت بوادر ذلك تظهر من خلال تمديد حالة الطوارئ في إسرائيل حتى نهاية الشهر الجاري. وأيضاً لا قدرة للطرفين – وفق المنطق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني- على تحمُّل كلفة وتبعات الاستهداف المباشر لمراكز حيوية وحساسة وسيادية في ذات الوقت.
العقل الأمني الإسرائيلي
الخط الأحمر الذي يضبط الحركة السياسية الإسرائيلية واضح ومحدد: “لا صفقة بدون تفكيك”، والمقصود بذلك هو التفكيك الكامل غير القابل للعكس للبنية النووية الإيرانية، مع إخضاع كل مراحل الدورة النووية – من التخصيب إلى البحث العلمي – لرقابة دولية صارمة. لا مكان هنا لسيناريوهات مثل العودة إلى الاتفاق النووي السابق، أو تطوير نموذج تفاوضي جديد يكتفي بتجميد مرحلي أو تعطيل جزئي. وفقاً للصحافة الإسرائيلية التي تنقل تقديرات المؤسسة الأمنية في تل أبيب، فإن أي اتفاق لا يمنع إيران من امتلاك القدرة النووية، حتى لو لم تصل إلى إنتاج السلاح فعلياً، هو تهديد وجودي مؤجل. وهذا ما يُفسّر تشدد نتنياهو في كل خطاباته: “لن ننتظر حتى تُشهر إيران السلاح في وجوهنا”، و”البرنامج النووي الإيراني لا يُمكن احتواؤه، بل يجب تدميره جذرياً”. بالتالي، فإن أي حديث عن مفاوضات يظل مشروطًا بتنفيذ مسبق لا بتفاهم لاحق. وليس الملف النووي وحده هو محل الاشتراط، بل تُضيف إسرائيل شرطًا ثانيًا جوهريًا: وقف كامل ونهائي للدعم الإيراني لأذرعها الإقليمية – من حزب الله في لبنان، إلى الميليشيات في سوريا والعراق، وصولاً إلى الحوثيين في اليمن. في تقدير الإسرائيليين، البرنامج النووي هو التهديد الاستراتيجي، أما الوكالات الإقليمية فهي سلاح إيران التكتيكي الذي يجب نزعه بالتوازي. لذلك، عندما تتحدث أطراف محسوبة على إسرائيل عن “اتفاق”، فإنها لا تشير إلى صفقة دبلوماسية بالمعنى الكلاسيكي، بل إلى استسلام كامل للمطالب الإسرائيلية الأمنية، وهو ما يجعل السقف التفاوضي فعليًا أقرب إلى إنذار استراتيجي منه إلى أرضية حوار. هذا الإنذار يقوم على معادلة واضحة في تل أبيب: تفكيك البرنامج ووقف الدعم الإقليمي لأذرع طهران.
العقل الاستراتيجي الإسرائيلي يرفض كلياً نموذج “الاحتواء الناعم” الذي تؤمن به بعض العواصم الغربية، القائم على ضبط توقيت الوصول إلى القنبلة النووية دون تفكيك البنية التحتية. فبالنسبة لإسرائيل، مجرد امتلاك المعرفة والقدرة التقنية هو تهديد وجودي، سواء استُخدمت القنبلة أم لا. لذلك، فالمعيار الوحيد المقبول إسرائيلياً هو عدم الامتلاك المطلق، لا عدم الاستخدام، فتل أبيب ونتنياهو تحديداً ضد “الاحتواء الناعم لإيران” رافعاً شعاراً لهذه المواجهة يقوم على مقولة: لا مساومات على الزمن. والمفاوضات التي تجري في أماكن مختلفة وفقاً للإعلان الأميركي هي بمثابة غطاء للضغط، ففي تل أبيب، لا يُنظر إلى التفاوض كفرصة دبلوماسية، بل كأداة ضمن منظومة الردع المتكاملة. الضغط العسكري، التهديد السيبراني، العمليات النوعية، والدبلوماسية الصارمة، كلها أدوات متداخلة في عقل الأمن الإسرائيلي. والمطلوب إسرائيلياً واضح: لا تفاوض بدون تفكيك – لا تخفيف عقوبات دون وقف التموضع – ولا شرعية لأي تراجع تكتيكي من طهران. وبناء على هذا الهرم الثلاثي فإن السقف التفاوضي الإسرائيلي لا يُبنى فوق طاولة المفاوضات، بل يُرسم في غرف العمليات العسكرية، وأروقة الأمن القومي، ومختبرات التقدير الاستخباراتي.
المنطق الإيراني
إيران في هذه المواجهة المفتوحة التي فُرِضت عليها، توظِّف استراتيجية الردع قبل التفاوض، ما يجعل الحدث الحالي يمثِّل منعطفاً نوعياً. فالمعادلة تغيّرت في طهران: لم يعد الحديث عن ميزان رعب غير متماثل، بل عن دستور شرعي عالمي تصرّ عليه إيران مهما كانت كلفته، يقول بأن الرد الفوري والمباشر هو شرط أولي لوجود أية دبلوماسية. ولا مفاوضات في ظل العدوان، ولا طاولة دون إشعال جبهة الرد. يمكن تلمس هذا السلوك في خروج إيران من نمط الحرب بالنيابة إلى استراتيجية الردع الثنائي المباشر. الصواريخ التي أطلقت من أراضٍ إيرانية باتجاه العمق الإسرائيلي لم تكن رسالة رمزية، بل إعلان ميداني عن أن الجمهورية الإسلامية باتت صاحبة اليد العليا في تقرير مستوى الاشتباك. الرد جاء بصيغة مدروسة: إصابة نقاط ذات طابع عسكري وشبه مدني في الداخل الإسرائيلي، بالتزامن مع تهديد واضح وعلني من قائد الحرس الثوري بأن “إيران فتحت أبواب جهنم على إسرائيل”، في توصيف يُحاكي البُعد العقائدي والعسكري في آنٍ معًا. هذه التحوّلات ليست ظرفية. إنما تعبّر عن قرار مؤسسي في طهران بأن كلفة الاستهداف الصهيوني لم تعد تُواجه بضبط النفس الإيراني، بل بالتصعيد الميداني المتدرِّج، بما يُعيد تعريف حدود الاشتباك وقواعده، ويضع الردع الإيراني على قدم المساواة مع “عقيدة الضاحية” الإسرائيلية.
نهاية مرحلة وبداية مبدأ
وبهذا بات واضحاً أن إيران تبنّت قاعدة جديدة تقول إنه لا تفاوض دون رد، فلا يمكن العودة إلى طاولة المفاوضات من موقع الضعف أو تحت ضغط نيران الطائرات والمسيِّرات الإسرائيلية. الردّ يأتي أولاً، ليُنهي اختلال ميزان الردع، ثم يُمكن الحديث عن شروط الدخول في تسوية. بهذا المعنى، المفاوضات لم تعد سبيلاً لاحتواء التصعيد، بل نتيجةً حتميةً له. ومن هنا، يمكن فهم لماذا سارعت طهران إلى الرد الميداني على الاستهدافات الإسرائيلية الأخيرة لمنشآتها النووية أو الاغتيالات التي طاولت قياداتها العسكرية والعلمية، قبل أن يتم الحديث عن أي هامش للمبادرات الدبلوماسية لخفض التصعيد. وهي بذلك تفرض مشهد جديد في منطق قواعد الاشتباك مع إسرائيل: من يهاجم يُضرب، ومن يريد تسوية لا بد أن يدفع ثمن العدوان أولاً. هذا المبدأ نابع من إدراك إيراني مركزي يؤمن أن الضغوط العسكرية لا تسبق الاتفاقات، بل تفجّرها. لذا، فإن الدبلوماسية الإيرانية باتت تجري تحت ظل الصواريخ، لا ظل التنازلات.
وسقف التفاوض الإيراني يُبنى بأن طهران تريد ضمانات لا وعوداً في رفع غير مسبوق لسقف التفاوض النووي، يطيح بشكل نهائي وتام بعقيدة الضربات الاستباقية التي تروّج لها تل أبيب دائماً. في هذا السياق، تبدو كل التصريحات الأميركية الأخيرة. بما فيها الحديث عن أن الوقت لم يفت بعد أمام إيران، مجرّد استغاثات تفاوضية في ظل واقع سياسي وعسكري تجاوز قدرة واشنطن وتل أبيب على إدارة الإيقاع.
وأمام هذا لا تستند الاستراتيجية التفاوضية الإيرانية المقبلة إلى أوراق سياسية فقط، بل إلى ردع مرحلي متراكم. الهجوم لا يكون شاملاً دفعة واحدة، بل يُقسّم على مراحل، كل مرحلة تحقّق هدفًا تكتيكيًا وتُمهّد لتنازل تفاوضي من الطرف الآخر. هذا ما يُسمّى في العقل الأمني الإيراني بـ”التفاوض بالنار”، أو “الكرّ الاستراتيجي”. وفي هذا تسعى إيران إلى تحقيق الاحترام القسري للقوة: فكما أنّ إسرائيل تحشد طيرانها لضرب المنشآت، فإن إيران تُعلن بكل وضوح: لدينا القدرة على إسقاط قواعد الاشتباك التقليدية، والذهاب إلى ما هو أبعد مما يتوقّعه العدو. وهذا ما يمكن تسميته بدبلوماسية ما بعد اللهب الإيراني، عبر التفاوض بالقوة لا بالرموز والشعارات ليكون الردع المرحلي القوي والممكن والواقع في آنٍ معاً أداة ضغط أساسي في الصورة الجديدة. وما يجري ليس استعراض عضلات، بل إعادة تأسيس للإقليم. ومن هنا فإن طهران وتل أبيب تسعيان لفرض شروط التهدئة بمعادلات غير تقليدية. إن لم يتم الاعتراف بالقواعد الجديدة، فإن الطريق نحو تصعيد طويل الأمد سيُصبح قدَر المنطقة.
العرب.. تموضع وسط النار
لم تعد المواجهة بين إسرائيل وإيران شأنًا ثنائيًا يمكن مراقبته من الشرفة العربية. فالمسافة بين المتفرّج والمتورط قد تلاشت تماما، ولم يعد العرب قادرين على التموضع في “منتصف النار” دون أن تحترق أطرافهم. لقد تحوّلت الجغرافيا العربية، بحكم تداخل المصالح والمساحات والمجالات السيادية، إلى امتداد فعلي لجبهة الحرب. إنهم في قلب الصراع، لا على هامشه. فالغارات الإسرائيلية أو الصواريخ الإيرانية التي تخترق الأجواء السورية أو العراقية أو الأردنية لا تمر دون أثر. وصمت العواصم العربية لم يعد يُشكّل عزلة دبلوماسية آمنة، بل صار يُفهم كاصطفاف مضمر أو تواطؤ ضمني. والثنائية مستحيلة هنا إما إسرائيل أو إيران؟ وبذلك فإن الاصطفاف لم يعد خيارًا بسيطًا. فالخيار بين إسرائيل وإيران أشبه بالاختيار بين زلزال وحريق. إيران، وإن حملت في ظاهر خطابها شعارات “تحرير القدس” و”محور المقاومة”، فإنها عمليًا أنهكت البنى السياسية والأمنية في العراق وسوريا ولبنان، وحوّلت أراضي هذه الدول إلى “منصات تهديد متقدمة” في مواجهتها الطويلة مع إسرائيل. فضلاً عن عبثها بالعقد الاجتماعي والسياسي لتلك الأقطار العربية عبر العقود الماضية. أما إسرائيل، فبعقيدتها الأمنية القائمة على الردع الاستباقي وتفوق السلاح، فإنها تتعامل مع العرب كـفراغ أمني قابل للتوظيف، لا كأطراف مستقلة. تضرب في العمق السوري، تخترق العمق اللبناني، وتُراكم نفوذًا استخباراتيًا في المشرق ككل، تحت عنوان “محاربة التهديد الإيراني. أمام هذه الثنائيات، يضيع الصوت العربي، وتتآكل السيادة، وتصبح كل عاصمة مرشحة لتكون ضحية جديدة.
أزمة المشروع لا الموقع
الخلل الأكبر ليس في الموقع العربي ضمن الصراع، بل في غياب مشروع عربي مستقل تجاهه. العرب ككتلة بشرية وسياسية يفتقرون إلى القدرة والقرار. التحالفات تتصدع تحت وطأة الأولويات الأمنية. دول الطوق منهكة داخليًا وغير قادرة على التأثير. لا توجد صيغة ردع عربية، ولا إطار تفاوضي عربي جامع، ولا حتى لغة سياسية موحّدة تجاه تطورات تمسّ مباشرة الأمن القومي لكل دولة. والصمت العربي في هذا الصراع ليس موقفًا عقلانيًا، بل دليل عجز استراتيجي. فإسرائيل تقاتل لفرض هندسة أمنية إقليمية تتجاهل العرب، وإيران تقاتل على أرضهم، عبر وكلاء ينتسبون لها أكثر مما ينتسبون لعواصمهم الأصلية. وبالتالي فإن الحياد في هذه الحرب وهم. وتحييد الذات مستحيل. للخروج من هذا المأزق يراهن البعض على سياسة النأي بالنفس أو الحياد الإيجابي، لكن ما يجري اليوم يتجاوز تلك الحسابات. كيف يمكن الحياد وإسرائيل تستخدم الأجواء العربية لتنفيذ غارات على الأراضي السورية؟ كيف يمكن الحياد وإيران تُسلّح ميليشيات داخل الجغرافيا العربية تحت عنوان الردع؟ كيف يمكن الحياد ولبنان مهدد بالانفجار في أي لحظة، وسوريا التي تغرق في أزماتها الداخلية مهددة بتفكك نسيجها الاجتماعي؟.
العرب أول من يدفع الثمن
إذا انزلق الصراع إلى مواجهة شاملة بين إيران وإسرائيل، فالعرب سيكونون أول من يدفع الكلفة الباهظة لذلك، عبر انهيار الهياكل الهشة في لبنان وسوريا والعراق. فضلاً عن استهداف المنشآت النفطية والموانئ الخليجية. وما يليه من تعطيل خطوط التجارة البحرية في باب المندب والخليج. وهذه الظروف بطبيعة الحال ستؤدي إلى تصاعد حركات التطرف المسلّح التي تجد في الفوضى الكبرى فرصة للعودة. فالفراغ الاستراتيجي العربي سيتحوّل إلى حفرة تمتصّ الاستقرار الهش الذي ما زال قائمًا.
هل يمكن تجاوز كل ما سبق عربياً؟ نعم، أو ربما من خلال تشكيل أو إطلاق مبادرة عربية استباقية، تتجاوز فكرة الوساطة إلى هندسة جديدة للأمن الإقليمي، منطلقين من قاعدة أنهم ليسوا جزءاً من الحرب لكنهم في جغرافيتها وميدانها، فالمطلوب ليس الانحياز، بل فرض قواعد اشتباك إقليمية تُمنع فيها الأطراف الدولية من استباحة المجال العربي. المطلوب ليس الصراخ السياسي، بل مأسسة موقف دبلوماسي عربي منضبط، يجرّ الصراع نحو آلية تفاوض لا تتجاوز العواصم العربية. فالمعركة اليوم أكبر من البيانات، وأعمق من الحسابات الثنائية، وأخطر من الانتظار. ورغم حساسية وجود إسرائيل في الثنائية ” إسرائيل وإيران” فإن الواقع الحالي يفرض معادلة جديدة إن لم ينتبه لها العرب فإن المشروع الصهيوني قاب قوسين أو أدنى من الاكتمال في حال انتصار إسرائيل، وكذلك المشروع الفارسي قاب قوسين أو أدنى في حال انتصار إيران، لذلك فإن البحث عن الحلول الوسط التي تضمن وجود مشروع عربي قابل للموازنة هو الملاذ الأخير الذي يمكن الاشتغال عليه الآن، و إلا سنكون جميعاً وقودًا لصراع لا نملك فيه اليد العليا. العرب مطالبون بالعودة إلى مركز الطاولة، لا كمجرد مراقبين، بل كصانعي وفارضي الشروط. وفي لحظة يتكثف فيها التصعيد وتغيب فيها التفاهمات. إن لم يحصل ذلك الآن وليس غداً أو بعد ساعات، فإن المنطقة مقبلة على خرائط جديدة لن تكون فيها العواصم العربية الكبرى أكثر من نقاط عبور أو نقاط اشتعال. وبالتالي يكون المشهد الختامي إما أن يصوغ العرب معادلتهم، أو سيُصاغوا في معادلة الآخرين.
المصدر: تلفزيون سوريا