
استفاق العالم يوم الجمعة على وقع ضربات إسرائيلية مركّزة وغير مسبوقة في العمق الإيراني، حملت رسائل استراتيجية وأمنية من العيار الثقيل. فقد استهدفت الضربات عددًا من القيادات العليا في الحرس الثوري الإيراني، كان أبرزهم اللواء حسين سلامي، القائد العام للحرس الثوري، واللواء محمد باقري، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، بالإضافة إلى اللواء غلام علي رشيد، قائد مقر “خاتم الأنبياء”، ضمن سلسلة هجمات نُفذت بدقة عالية.
كما طالت الضربات علماء بارزين في البرنامج النووي الإيراني، من بينهم محمد مهدي طهرانجي وأحمد رضا ذو الفقاري. أما الذراع الثالث لهذه الضربة فكان استهداف المنشآت النووية الاستراتيجية، وعلى رأسها منشأة نطنز، التي تُعد من أهم أعمدة البنية التحتية النووية الإيرانية. وقد نُفذت العملية عبر تنسيق استخباري محكم بين الجيش الإسرائيلي والموساد، من خارج وداخل إيران، بخيوط وتفاصيل قد لا تُكتشف إلا مع مرور الوقت.
صحيح أن الضربة في إيران ولكنها أثارت ضجة في العالم كله. ففي عالم مترابط كما نعيشه اليوم، انكبّت كل دولة وكيان نحو مراجعة حساباته، تأثرًا وتأثيرًا بما حدث، وما قد يحدث، في هذا الفصل المتصاعد من الحرب بين إيران وإسرائيل.
الولايات المتحدة، من جهتها، ترى في هذه الضربة فرصة سانحة لفرض اتفاق حاسم على إيران، تتخلى فيه عن مشروعها النووي ونفوذها مقابل الحفاظ على النظام، بعد أن كانت قد رفضت ذلك في السابق. لكن نجاح إسرائيل في تحقيق كامل مساعيها مع إيران، في حال حصل، قد يدفعها إلى الإفلات من الضبط الأميركي ذاته أو قد يدفع واشنطن إلى إعادة النظر في سياستها الإقليمية لتصبح من خلال المنظور الإسرائيلي حصرا.
بشكل أوضح، هناك خطان يتنازعان في النظرة الأميركية تجاه إسرائيل: الأول يتمثل في محاولة الموازنة بين الحلفاء التقليديين في المنطقة (إسرائيل والدول العربية)، والثاني هو ما تسعى إليه إسرائيل نفسها، أي أن يكون العالم العربي بكامله تحت مظلتها السياسية والأمنية والاقتصادية. وبالتالي، فإن تحقّق كامل أهداف إسرائيل في إيران – وهي أهداف لن تكتمل إلا بإسقاط النظام إذا استمرّ هذا المسار – يدفع بشكل أكبر لتثبيت النظرة الثانية للمنطقة وما يُشكّل تحديا استراتيجيًا على الدول العربية قاطبةً، وعلى تركيا أيضًا.
لهذا السبب، سارع عدد من الدول الخليجية إلى إدانة الهجوم الإسرائيلي، في خطوة اعتبرها بعضهم مفاجئة، لكنها تنسجم مع منطق المصالح الخليجية العامة. فالخليج يخشى من أن يؤدي انفلات الأمور إلى تداعيات مباشرة عليه، كاستهداف قواعد أميركية على أراضيه، أو تسربات نووية إلى محيطه، أو حتى ضربات إيرانية غير مباشرة عبر مضائق مائية أو في ساحات اشتباك كاليمن. أي تصعيد إيراني، في إطار الرد على الضربة، قد يتجه نحو استهداف المصالح الأميركية أو عرقلة التجارة العالمية، وكلها سيناريوهات تمسّ أمن الخليج بشكل مباشر.
من هذا المنطلق، ينظر الخليج إلى أن توسّع الضربة الإسرائيلية على إيران كخطر، وهو الذي يسعى في هذه المرحلة إلى تعزيز الاستقرار، وتنويع الشراكات الدولية، والتركيز على التنمية الداخلية، وتصفير المشكلات الخارجية.
العين أيضًا على روسيا والصين، باعتبارهما من المتضررين الأساسيين من انفراد الولايات المتحدة بالتحكم بمصير الشرق الأوسط. فهذه المنطقة تمثّل خزان الطاقة العالمي، وعقدة الوصل الجغرافي بين القارات، وتلعب إيران فيها دورًا محوريًا بالنسبة للصين في مشاريع كبرى مثل “الحزام والطريق” أو تزويدها بالطاقة. ومع ذلك، فإن روسيا المنهكة في أوكرانيا وغير الراضية أساسا عن المشروع النووي الإيراني، والصين التي لم تفعّل أدواتها في السياسة العالمية أبعد من الاقتصاد، تظلّان محدودتي التأثير في هذه المرحلة، ما لم يتطوّر المشهد إلى مستويات أكثر خطورة.
تحت هذا الشد العالمي تعيش سوريا اليوم مرحلة انتقالية دقيقة، فقد عانت طويلاً من كمّاشة جيوسياسية وأمنية بين إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى. ورغم أن السوريين نجحوا في إقصاء النفوذ الإيراني في الداخل، يعانون اليوم من تأهّب إسرائيل ضاغط على النظام الجديد، مستغلة بذلك حالة الضعف في هذا الظرف الدقيق.
لكن ارتياح إسرائيل من الخطر الإيراني – إذا ما تحقق بالكامل – سيمنحها قدرة أكبر على تحويل تركيزها نحو ملفات أخرى في الإقليم. فقد كانت حتى الآن مضبوطة نسبيًا في سوريا بفعل ضغط سعودي – تركي مشترك، أثمر مع الولايات المتحدة، لكن هذا التوازن قد يتغيّر تحت وطأة الثور الإسرائيلي الهائج. القلق السوري مشروع في هذا السياق، فالتجربة تُثبت أن إسرائيل ما إن تنهي معركة حتى تبدأ أخرى، وفق منطق استباقي توسعي تبنّاه نتنياهو طوال مسيرته السياسية.
وعليه، فإن التحدي أمام سوريا والعالم العربي سيكون في تثبيت العلاقات العربية، وتوحيد التوجّه والموقف – ليس فقط فيما بينهم، بل أيضًا مع تركيا – من أجل الوقوف أمام المشروع الإسرائيلي التوسعي في المنطقة. فالمعركة المقبلة، إذا ما جرى تحييد إيران بالكامل، قد تتمحور حول تفتيت الكيانات، وتحجيم أي نفوذ مستقل خارج العباءة الإسرائيلية – حتى داخل الولايات المتحدة نفسها في نظرتها للشرق الأوسط.
المصدر: تلفزيون سوريا