شكّل تصعيد النظام السوري والروس أخيراً في إدلب، حدثاً هاماً في التطورات الميدانية، خصوصاً مع شنّ الطيران الروسي أكثر من 15 غارة شمالي المحافظة، كما أطلق صاروخين بعيدي المدى لم يعرف مكان إطلاقهما. وسبق ذلك محاولة تسلل لقوات النظام على محور معارة النعسان شرقي إدلب، التي تصدّت لها قوات المعارضة بنجاح. أما التطور الأهم في ذلك فتمثل في إسقاط المعارضة طائرتي استطلاع روسيتين شمالي إدلب، بعد ساعات قليلة من شنّ الغارات، ما فتح الباب حول دور طيران الاستطلاع المسيّر في أي مواجهات مستقبلية في حال أكمل النظام والروس والمليشيات الإيرانية التي تساندهم، في طريق إنهاء اتفاق وقف إطلاق النار بشكل كامل، واستئناف العمليات العسكرية في إدلب.
وشهدت الأيام الأخيرة تصعيداً غير مسبوق منذ إبرام وقف إطلاق النار بين روسيا وتركيا في 5 مارس/آذار الماضي، والذي أوقف عملية عسكرية تركية ضد قوات النظام. ونفذت الطائرات الروسية غارات في محيط قرية الشيخ بحر بناحية معرة مصرين الواقعة على طريق إدلب – باب الهوى (معبر حدودي مع تركيا) وقورقنيا في محيط بلدة حربنوش الواقعة شمالي غرب معرة مصرين. وكانت قوات النظام قد فشلت في محاولة التسلل نحو بلدة معارة النعسان، وهي نقطة تماس بين قوات النظام وفصائل المعارضة المدعومة من تركيا، في ريف إدلب الشمالي الشرقي المتاخم لريف حلب الجنوبي الغربي.
وكشف مصدر في المعارضة السورية لـ “العربي الجديد”، أن محاولة التقدم كانت من قبل قوات النظام المدعومة بالمليشيات الإيرانية المسيطرة على ريف حلب الجنوبي وريف حلب الغربي، فضلاً عن تواجدها بشكل جيد في ريف إدلب الشرقي. وذكرت مصادر محلية لـ”العربي الجديد” أن طائرة استطلاع، يرجح أنها روسية، سقطت بالقرب من بلدة سرمدا المحاذية للحدود السورية التركية، تزامناً مع سقوط طائرة أخرى في محيط قرية شيخ بحر بريف إدلب الشمالي. وأضافت المصادر أن الطائرتين كانتا تحلقان في المنطقة منذ الصباح، بعد تصعيد جوي وشن غارات من قبل سلاح الجو الروسي في وقت سابق على تلك المناطق، مضيفةً أن فصائل المعارضة أسقطت الطائرتين باستخدام صواريخ أرض جو قريبة المدى، مع تحليقهما على ارتفاع منخفض لحظة استهدافهما.
في المقابل، أكد النقيب ناجي المصطفى، المتحدث باسم “الجبهة الوطنية للتحرير”، أبرز التشكيلات العسكرية المقاتلة في إدلب والمدعومة من تركيا، في حديث لـ “العربي الجديد”، أن الطائرتين أُسقطتا بواسطة مضادات أرضية تقليدية، من خلال الرشاشات المتوسطة، نافياً أن إسقاطهما عبر صواريخ مضادة للطائرات.
وبعد يوم من هذا التصعيد، دخلت تعزيزات ضخمة للجيش التركي أمس الأربعاء إدلب، وصلت إلى حوالي سبعة أرتال كبيرة. ونوّهت مصادر محلية في إدلب رصدت دخول التعزيزات، إلى أن الأرتال ضمّت حوالي 500 آلية عسكرية جديدة، من بينها دبابات ومدافع ومعدات لوجستية وناقلات جند وكبائن حراسة، وصلت إلى قاعدتي تفتناز والمسطومة العسكريتين للجيش التركي في إدلب، تمهيداً لتوزيعها على نقاط المراقبة والانتشار التركية، لاسيما عند خطوط التماس جنوبي إدلب. وأفادت مصادر مقرّبة من الفصائل في إدلب لـ”العربي الجديد” بأن الجيش التركي أدخل، في وقت سابق، مضادات خاصة للتعامل مع طيران الاستطلاع المسير، وسلم بعضاً منها للفصائل المقاتلة في إدلب، إلا أننا لم نتمكن من التأكد من صحة هذه المعلومة من عدمها.
ومن المفترض أن يبرز دور الطيران المسير، المذخر والاستطلاع، في أي معركة مستقبلية بشكل كبير، تحديداً بعد الرسالة الأخيرة للفصائل والأتراك تجاه الروس والنظام بإسقاط الطائرتين، ومن المتوقع استخدام طرفي المعركة، في حال اندلاعها مجدداً، هذا النوع من السلاح للتفوق على الآخر. مع العلم أن الجيش التركي أظهر تفوقاً في سلاح الطيران المسير في الأيام الأخيرة للمعركة قبل توقفها في مطلع مارس الماضي، في حين لم يكن للطيران الروسي المسير دور يذكر في تغيير موازين المعركة.
ويرى القيادي في “جيش العزة” مصطفى بكور، أن “الطيران المسير بشكل عام بنوعيه الاستطلاع والمذخر، يكتسب أهمية خاصة في الحروب الحديثة لما له من ميزات تقنية عالية، إذ يُعتبر أحد الأدوات الأساسية للحرب عن بعد، وذلك لتوفير الخسائر البشرية، إضافة إلى التكاليف المادية القليلة فيما لو قورنت بالطيران الحربي التقليدي. بالتالي، فإن كافة الدول المتطورة تسعى إلى إنشاء منظومات متعددة من الطيران المسير الاستطلاعي والقتالي”.
وبالنسبة للتعامل مع الطيران المسير، يشير بكور، في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، إلى أن “هناك طرقا عدة، منها الوسائط النارية التقليدية مثل المضادات من مدفعية وصواريخ، ومنها الطرق الإلكترونية، وهي عبارة عن منظومات تشويش يتم من خلالها التشويش على الطائرة المسيرة وقطع تواصلها مع مقرّها الرئيسي وبالتالي إسقاطها، وكلا الطريقتين تستخدمان من قبل الأتراك والروس وحلفائهما”.
ويوضح أن الطيران المسير يقسم إلى نوعين رئيسيين، الأول طيران الاستطلاع، وتمتلك كل من روسيا وتركيا عددا من الأنواع وتعتمدان عليه بشكل رئيسي في عمليات الاستطلاع الآنية، إذ تقوم هذه الطائرات بتصوير منطقة العمليات وتحديد أماكن وإحداثيات الأهداف المعادية وتصحيح رمايات المدفعية والصواريخ وتقوم بمهام أخرى. أما الثاني، وهو الطيران المسير القتالي (المذخر)، ويعتبر قوة ضاربة مهمة، ويمتلك الروس والأتراك منظومات عدة من هذه الطائرات، لكن التفوق كان كبيراً للطيران التركي من ناحية التقنية والفاعلية على كافة أنواع الطيران الروسي والإيراني”.
وينوّه إلى أن “هذا النوع من الطيران المسير يطلق الصواريخ الموجهة على الأهداف المعادية ويدمّرها بشكل دقيق، ويقوده خبراء مختصون عن بعد مئات الكيلومترات، وغالباً ما تكون هذه الطائرات (التركية حصراً) من النوع الشبحي لا يكتشفها الرادار، لذلك يصعب التعامل معها بالطرق التقليدية. وهذا ما ظهر جلياً خلال الحملة التركية منذ أشهر على مليشيات النظام في ريف إدلب”.
ويرى بكور أن “الطيران التركي المسير أثبت خلال الأشهر الماضية كفاءة عالية، في التعامل مع الأهداف المعادية من خلال دقة الإصابة والقدرة التدميرية. وقد تفوّق على الطيران الروسي، رغم سقوط عدد من الطائرات التركية بنيران القوات الروسية ومليشيات النظام، لذلك من المتوقع أن تؤدي المنظومة التركية للطيران المسير دوراً كبيراً ومقلقاً للروس، فيما إذا قررت تركيا أن تخوض الحرب ضد مليشيات النظام. كما يتوقع أن يساهم الطيران المسير التركي في تغيير المعادلة على الأرض، إذا قررت القيادة التركية زجه بشكل جدي في أي معركة”.
وقبل أيام، أعلنت شركة “بايكار” التركية، نجاحها في أول اختبار للنموذج الثاني للطائرة المسيّرة الهجومية “بيرقدار أقينجي تيها” المصنعة محلياً، وذكر بيان صادر عن الشركة، أنها نفذت أول عملية تحليق للنموذج الثاني للمسيرة في مدينة تشورلو بولاية تكيرداغ شمالي غرب البلاد. وأضاف البيان أن المدير الفني للشركة، سلجوق بيرقدار، أشرف على عملية اختبار طيران المسيرة التي نجحت في الاختبار وبقيت ساعة ودقيقتين في الجو، حسبما أعلنت وكالة “الأناضول” التركية. ويعد النموذج الجديد من الطيران المسير التركي ذا قدرات عالية، كونه يتميز بمهمات قتالية وهجومية، علاوة على الاستطلاع والاستهداف بالذخائر، ولديه كذلك القدرة على المناورة القتالية في الجو لفترات طويلة، أكثر من الطائرات الحربية التقليدية.
وتمكنت الطائرات التركية المسيرة في الأيام الأخيرة من معارك إدلب قبل توقفها من قلب موازين المعركة لصالح الجيش التركي والمعارضة، فتمكنت من تعقب واستهداف قوات النظام والمليشيات الحليفة حتى في المخابئ والحصون وأوقعت بها خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد. ما أدى إلى شل حركة تلك القوات خلف خطوط القتال، وبالتالي قطع وصول الإمدادات إلى جبهات القتال، كذلك تمكنت من رصد واستهداف الآليات ومرابض المدفعية، وكان الأهم قدرتها على استهداف مضادات الطيران الروسية من نوع “بانتسر”، ما شكّل أكبر ضربة للسلاح الروسي.
في المقابل، لم تظهر الطائرات الروسية المسيرة بذات القدرة والفاعلية، فاستهدفت الفصائل العديد منها، ما أدى إلى إسقاطها. فقد اعتمد الروس والنظام على الطيران الحربي النفاث، ذي التكلفة الأكبر والأكثر مخاطرة، ما أدى إلى سقوط عدد من طائرات سلاح الجو التابع للنظام بنيران سلاح الجو التركي، في آخر أيام المعركة. وتعمد روسيا والنظام وإيران إلى الضغط على أنقرة في إدلب، لاختبار إمكانية صدها لأي هجوم جديد نحو ما تبقى من محافظة إدلب أو “منطقة خفض التصعيد الرابعة” التي تضم كامل محافظة إدلب وأجزاء من أرياف حماه الشمالي والغربي، وحلب الجنوبي والغربي، واللاذقية الشرقي، والتي قضم النظام بدعم روسي وإيراني مساحات واسعة منها في معارك سابقة، إلا أن تركيا عززت وجودها العسكري في إدلب بشكل كبير خلال الأشهر الماضية، لإظهار نيتها التصدي لأي هجوم محتمل بفاعلية وجدية.
المصدر: العربي الجديد