
في المعنى اللغوي والديني لمفهوم الحدّ على الأجساد والخصوصية (الهوية كذلك) الدلالة السياسية والأيديولوجية نفسها التي للحدود في علاقة بالسيادة على الأرض. الحدّ في اللغة هو المنع، وشرعاً هو العقوبة المقدّرة به جزاء ارتكاب معصية، وهي مشروعة زجراً للنفوس (عن ارتكاب المعاصي والتعدّي على الحرمات). والحدود في علم السياسة هي الخط الفاصل بين المناطق الجغرافية المرتبطة بالدول، وهي الفضاء الترابي (أو البحري… إلخ) الذي تقوم عليه السيادة ويستوجب الحماية، وكل مساسٍ به يعتبر تعدّياً على السيادة ومساساً بالحماية.
ولتوضيح هذا الجانب من تفسير الحدود، يعمد الفقيه إلى ضرب مثالين على قياس الأفراد والدول، قائلاً في الحالة الأولى: “الحدود هي التعبير الأمثل عن حقيقتين محوريتين في وجودنا الإنساني، أننا أشخاصٌ متفرّدون، أننا محتاجون بعضنا”. أما في الحالة الثانية، وهي الأوضح: فالدول “لها حدود جغرافية واضحة وغير مسموح لدولة أخرى تجاوز حدود دولة مجاورة إلا بإذن هذه الدولة، لا اختلاط يُلغي معالمها ولا انعزال يحرمها من العلاقات”. وفي الحالتين، في المثالين ما لا يخفى من “القدرية المحتومة” من الناحيتين، الدينية والسياسية، وكذلك على ضوء الاجتماع الذي يجعل من تلك القدرية شرطاً لا يمكن خرقه إلا بالعدوان، أو لا يمكن احترامه إلا بالتقيد به. ولذلك تجد أن المعنى من المساس بالحدود مثلاً تحت أي داعٍ كان، يتجاوز، على نحو واضح، مفهوم الأرض، فيلتصق بالهوية الشخصية والجماعية، سواء أكانت نابعة من معرفة تاريخية، أو حِسّية من خلال تجارب ترتقي إلى الأفراد والجماعات عن طريق النماذج التي يتشبّهون بها، أو تسيطر على وعيهم لأنها أقوى منهم ولا يُقاوم إغراؤها، أو تصبح بالنسبة إليهم مبرّرات كبيرة يبرّرون بها وجودهم ومعاشهم وممتلكاتهم المختلفة.
حدود البلدان ليست من شأن الأفراد، بل من شأن الجماعات وإرادتهم المتصوّرة لرسم الجغرافيات (الطبوغرافيات) قصد الحدّ من النزاع، أو للسيطرة عليه
معروفٌ أن حدود البلدان ليست من شأن الأفراد، بل من شأن الجماعات وإرادتهم المتصوّرة لرسم الجغرافيات (الطبوغرافيات) قصد الحدّ من النزاع، أو للسيطرة عليه. ولذلك جاء تأكيد الجماعات والدول على الحدود “الموروثة” عن الاستعمار مثلاً في إطار بناء كيانات وهويات مختلفة، وأضحت المصالح المرتبطة في الوعي الجماعي بتلك الكيانات في حدودها الموروثة هي التي، مبدئياً، تضمن السلام بين الدول، وبين الأفراد، وعلى صعيد المجتمع كله إن كان الوعي الاجتماعي بالمصلحة في السلام حاصلاً وقائماً، وإلا فكثيراً ما أدّت الحروب الإقليمية والأهلية إلى انقسامات جوهرية تفرق بالعنف المادي والمعنوي ما اشترك بين الأفراد والجماعات من الأرض والهوية والدين، لمن له دين. ولأمرٍ ما كان “صُلح وِيسْتفاليا” منذ القرن السابع عشر أول اتفاقية لإرساء نظام جديد غير مسبوقٍ ينبني على سيادة الدول.
لا يتساءل المواطن يومياً عن معنى الحدود الوطنية، وكيف أنها من عناصر السيادة ومن خواصّ الهوية الوطنية، وأنه مدعو إلى حمايتها بجميع الأساليب التي يمكن أن تتوفر له، ولكنه لا يستطيع إعلان الحرب، إلا إذا قامت الدولة، ديمقراطية أو استبدادية، بوصفها قوة وإرادة جماعية، بإعلانها. ولهذا الاعتبار، عُدّت الحدود من الثوابت الحامية لكيان الدولة والضامنة لسيادتها، بقطع النظر عن أي تبريرٍ مهما كانت قيمته، فلا يؤخذ بالاعتبار لأن “القدرية المحتومة” تُسيّج وتُحصّن الشعور الدولتي المبني على القوة، بل تحوّله إلى حقيقة في مستوى الوجود التاريخي للشعب في جغرافيةٍ ما على وجه الأرض. والأمر الهام، في هذا، أن الحدود تُوَلِّد الحقوق والواجبات، وتنتج الخطابات الأيديولوجية. ولكنها، فوق ذلك، تبلور مصالح مرتبطة بمفهوم الحد، وتضع لتلك المصالح ما تتحتّم حمايتُه مِنْ قوانين، أو مبرّرات، أو قوة كذلك. وهنا مَرْبِطُ النُّظم السياسية الاستبدادية بأشكالها المختلفة، لأنها تحوّل الدولة، بناء على المصالح المعلنة وغير المعلنة، إلى ملكية خصوصية، هي الوحيدة التي يمكن لها أن تفتي في كل ما يتعلق بها بالحقّ الذي تفترضه والقانون الذي تسنّه والمصلحة العليا التي ترسمها في أفق التطور العام إلخ، ويصبح الإفتاء، بحسب طبيعة المشكلات المطروحة والظروف المواتية، حصرياً لا يمكن الطعن فيه بما للدولة من قوة، بل يصبح من باب الواجب القهري تنفيذه وتطبيق فحواه. ولذلك لِلْحَصْرِيَّة هنا بعد تجريدي، لأن التشخيص المادي لطبيعة الإفتاء، الذي تعتمده الدولة في الدفاع عن مصالحها، ينجم عنه عادة نوعان من المسؤولية: الرسمية، لأنها لصيقة بالدولة بحسب طبيعتها (القوة والعنف)، ويتحمّلها مسؤولوها في مختلف مواقع المسؤولية ومستوياتها. أما الثانية فتُربَطُ بالمواطن أياً كان موقعه ومهما كان انتماؤه، خصوصاً عندما تعمد الدولة إلى إقناع هذا المواطن إقناعاً جبرياً بأن الدولة، في نهاية المطاف، وأساساً أمام العدوان، هي دولته، ودفاعه عنها هو دفاع عن حوزته، أو حرمته، بمعنى الشيء الذي لا يجوز، أو لا يَحِلّ، انتهاكه.
وعندما تصبح الحدود في أساس السيادة الوطنية فإن بلورة وعي سياسي وأيديولوجي مرتبط بها يُوَلِّدُ، بفعل الإلحاح، حالتين مختلفتين من حالات الانتماء: أولاها في ارتباط بالتسمية (ليبي، تونسي، جزائري، موريتاني، مغربي)، وفي علاقة بمفهوم الدولة نفسها، وطبيعة النظام السياسي الذي يدير شؤونها ويعتبر نفسه حامي حماها. من دون أن ننسى أنه يولد أيضاً مقداراً من الشعور بالوطنية التي قد تتحوّل، بدرجة الشحن الأيديولوجي المتوخّى، إلى تصوّر مطلق قد يزكّي الشوفينية، أو الظلم (من حيث يرشح نفسه للدفاع عن الحد بوصفه حقاً تاريخياً أو موروثاً)، مثلما قد يزكّي السطوة والاستيلاء. فتجاوز الحدود أصلاً هو من نوع التصورات الإمبريالية المبنية على المصلحة الوطنية ذات الطبيعة الاقتصادية والتجارية، وقوامه التصوّر السياسي الذي يسعى إلى ضمان ما يفتقده، أو ما هو في حاجة إليه، آليته في ذلك التوسّع أو الهجوم أو استغلال الظرفيات الخاصة والمناسبات المواتية، وتعتبر القوة العسكرية، إلى جانب القوة الاقتصادية، الباعث الأساسي على ذلك. علماً أن الحدود تعتبر ركناً بارزاً في تنظيم العلاقات بين الدول، بحكم ما يتفرّع عنه من مسؤولياتٍ وحقوقٍ وواجبات نابعة من “الأنظمة الذاتية” (المصالح أو الاتفاقيات أو الأحلاف) ومن “التوافق الأممي”، أو الشرعية الدولية، التي قد تحتكم إليها الدول في علاقاتها بغيرها.
لا يتساءل المواطن يومياً عن معنى الحدود الوطنية، وكيف أنها من عناصر السيادة ومن خواصّ الهوية الوطنية
وثانيها حالة تنافسية سالبة ترتبط أصلاً بالهوية الشخصية والاجتماعية، بما هي جُمّاع التكوين العام الذي يؤلف الطبيعة التفاعلية التي عليها الفرد في المجتمع والمجتمع في الفرد، فيصبح المغربي، في التقدير اللّاواعي والنرجسي لنفسه، أحسن من الجزائري بإطلاق، الأمر الذي يكرّس عداوات شتى، ويتحول إلى أسلوبِ تَنَدُّر، ويكتسي في كثير من الحالات صفة أحكام أخلاقية، بما فيها من تنابز بالألقاب وسخرية وتعيير، متبلورة وراسخة في الذهن. ورأينا في الصراعات الإقليمية كيف أصبحت تلك التنافسية السالبة، فيما سمّي “الربيع العربي”، مفخرة تنبعث منها أبخرة السَّبق وحَذَاقَة الجرأة وعزَّة الشهامة، وَيُلَصَقُ ما يناقضها (الخنوع، الاستسلام، التطبيع، التآمر إلخ ) بالآخرين بناء على اختلاف الأصل والجغرافيا والحدود وإمعاناً في التعزية الذاتية أيضاً. … غير أن ما لا يقال عادة، رغم أنه مذكور في تاريخ العلاقات المغاربية وهو مَعْرِفَة بَديهِيَّة، أن الحدود التي أصبحت بعد الاستقلالات الوطنية سيادات “مقدّسة”، هي حدود موروثة أرْسَتْها السلطات الاستعمارية التي حكَمَت تلك البلدان، وَتَصَرَّفَت في غاياتها ومنتهاها على النحو الذي رسمت به مجالها العام في كل مرحلة من مراحل سيطرتها. ولما كان المفهوم “الحديث” للدولة من صياغة تلك السلطات الاستعمارية، فقد جاء الاستقلال الوطني، بالأفق التحرّري الذي كان له بعد الحرب العالمية الثانية، أي من خلال المقاومة أو المفاوضات، بصيغتين واضحتين لجعل الحدود مجالاً قومياً مشتركاً للتكامل المنتظر المناقض للطبيعة الاستعمارية القائمة على التفرقة إلخ: صيغة وحدوية، تنهض على فكرة المصير المشترك، والسعي “الموحد” لحشد كل الطاقات في سبيل تنزيل المشروع التحرري، رغم اختلاف النظم السياسية وتفاوت المشاريع الإصلاحية. ولحظة طنجة في سنة 1958 كانت أبرز علامة وطنية على تلك الصيغة المستخلصة من طبيعة الفكر القومي الداعي إلى توحيد الأمة العربية. صيغة تعدّدية، لعلها كانت مسعى إلى بناء تحالف إقليمي لمواجهة شكل آخر من التحالف المبرّر بعهد من العهود الاتفاقية على الصعيد الثنائي أو الثلاثي، وغالباً ما يكون التقارب السياسي، أو الأيديولوجي، أو البرغماتي لفض النزاع المرتبط بالحدود، أو بغيره، هو السياق الموجب لهذا الشكل من التفاهم. وهذه صيغةُ تقاربٍ لبناء حلف ظرفي يكون من بين أهدافه، إذا ما نجح فترة، بصرف النظر عن الصيغ المصطنعة لذلك، الإيحاء بالقوة والاستقواء على الأشقاء الخصوم الآخرين.
وتقديري أن ربط الحدود بالسيادة الوطنية، وانبناء هذه السيادة على الشعور الوطني وهويته المطلقة النافية للديمقراطية، جعل من اختلاف النظم السياسية وتباين العقائد الأيديولوجية التبريرية “أسلوباً مغاربياً” لتأجيل كل الحلول والمشاريع ذات الطابع التكاملي القابلة للتجسيد على الصعيد المغاربي.
المصدر: العربي الجديد