ماذا غيرت الولايات المتحدة موقفها من المقاتلين الأجانب في سوريا؟

باسل المحمد

في لحظة بدت وكأنها تعكس تحولاً عميقاً في استراتيجية واشنطن تجاه الملف السوري، كشف مبعوث الرئيس الأميركي إلى سوريا، توماس باراك عن وجود تفاهمات بين الولايات المتحدة والحكومة السورية الجديدة، بشأن خطة تسمح بانضمام نحو 3500 مقاتل أجنبي – معظمهم من الإيغور القادمين من الصين والدول المجاورة – إلى الفرقة 84 في الجيش السوري المشكل حديثاً.

شكلت هذه التصريحات التي نقلتها وكالة رويترز مفاجأة سياسية، خاصة أن واشنطن كانت قد ربطت – وبشكل حازم – الاعتراف بشرعية حكومة الرئيس أحمد الشرع ورفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا بخروج هؤلاء المقاتلين من البلاد.

هذا التحول الأميركي لا يمكن قراءته كخطوة منفردة أو عابرة، بل يندرج ضمن إعادة تموضع واضحة في سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا الجديدة، قد تكون مدفوعة بمتغيرات ميدانية، أو بتفاهمات غير معلنة مع أطراف إقليمية. فهل تخلت واشنطن عن شروطها مقابل استقرار مؤقت؟ أم أن انخراط المقاتلين الأجانب في مؤسسات الدولة الجديدة هو جزء من مقاربة أكثر براغماتية لاحتواء نفوذ قوى أخرى كروسيا والصين؟

واقعية أميركية جديدة.. الاستقرار أولاً

يبدو واضحا من خلال تعامل إدارة ترامب مع الملف السوري، أن سياسة واشنطن الجديدة تجاه سوريا تعتمد على مقاربة تقوم على دعم الاستقرار ومنع الفوضى الأمنية، بحيث لا تشكل سوريا أي خطر أو تهديد إقليمي أو دولي، ولو تطلب ذلك بحسب مراقبين التغاضي عن بعض الشروط السابقة، بل وحتى الانخراط في ترتيبات محلية لا تنسجم كليا مع المعايير الأميركية التقليدية.

وتتماشى هذه المقاربة أيضاً مع ما ورد في تقرير حديث لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، الذي أكد أن: أهم ما يمكن أن تفعله واشنطن في سوريا حالياً هو دعم أي ترتيبات تؤدي إلى بسط الأمن المحلي ومنع الفوضى، حتى لو كانت غير مكتملة من حيث المعايير الديمقراطية”.

هذه الرغبة باستقرار الأوضاع في سوريا كانت واضحة جداً في التصريحات الأميركية التي رافقت رفع العقوبات، إذ أوضح ترامب في سياق حديثه خلال زيارته للسعودية أن ” هناك حكومة جديدة في سوريا نأمل أن تنجح بتحقيق الاستقرار”، إذ بدا واضحا من خلال تصريحات ترامب ولقائه مع الرئيس الشرع في الرياض أن واشنطن قد حسمت أمرها واختارت نهج التعاون مع الحكم الجديد في سوريا لتعطيه “فرصة للنمو”، وفق تعبير ترامب.

بدوره قال وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أمام جلسة استماع في مجلس الشيوخ في 20 مايو/ أيار إن رفع العقوبات سيساعد سوريا في منع حرب أهلية شاملة وفوضى.

من هنا يمكن فهم التحول الأميركي حيال التعامل مع المقاتلين الأجانب ليس كتنازل سياسي، بل كجزء من استراتيجية طويلة الأمد تهدف إلى تثبيت الحد الأدنى من النظام والانضباط داخل سوريا، وتحويلها من ساحة مفتوحة للصراع إلى دولة قابلة للتعامل السياسي والاقتصادي.

سوريا ودبلوماسية التطمين والتهدئة

في مواجهة التوجّس الدولي من ملف المقاتلين الأجانب، سعت الحكومة السورية الجديدة بقيادة الرئيس أحمد الشرع إلى نزع فتيل المخاوف الدولية عبر تبنّي خطاب هادئ وتطميني، يبرز استعدادها لضبط هذا الملف ضمن إطار الدولة لا خارجه.

وقد جاءت هذه الرسائل – المعلنة والضمنية – في أكثر من مناسبة سياسية وأمنية، سواء من خلال بيانات وزارة الدفاع السورية أو عبر لقاءات رسمية مع وفود دولية. فخلال المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع الرئيس الفرنسي ماكرون أوضح الرئيس أحمد الشرع أن الحكومة السورية تضمن لجميع دول العالم، أن المقاتلين الأجانب الذين بقوا في سوريا لن يشكلوا خطرا على أي من الدول المجاورة، ولن يُلحقوا الضرر ببلدانهم التي جاؤوا منها.

وفي هذا السياق يشير الباحث في الجماعات الإسلامية حسن أبو هنية أن التحول الأميركي الأخير في التعامل مع ملف المقاتلين الأجانب في سوريا لا يمكن فصله عن البراغماتية المتبادلة بين واشنطن والحكومة السورية الجديدة، فدمشق – عبر رسائل طمأنة مدروسة وسلوك ميداني منضبط – نجحت في بناء قدر من الثقة مع الإدارة الأميركية.

ويضيف هنية في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن واشنطن باتت ترى في الحكومة الجديدة بقيادة أحمد الشرع شريكًا أكثر واقعية واستقرارًا، خاصة في ظل التوافق الإقليمي المتزايد على دعمها. ومن هنا، لم يعد شرط طرد المقاتلين الأجانب أولوية أميركية.

وفي تصريح للإخبارية السورية في منتصف أيار الماضي أكد وزير الدفاع مرهف أبو قصرة أن الوزارة تعمل على ضبط كل الجهات العسكرية تحت وزارة الدفاع حتى يأتمر الجميع بأمر الوزارة كقوات عسكرية”، مضيفاً “لن نسمح لأي تجمع عسكري أن يكون خارج سلطة وزارة الدفاع”.

وكان الرئيس الشرع قد ألمح سابقا خلال مقابلة أجرتها صحيفة نيويورك تايمز في نيسان الماضي، إلى أن حكومته قد تمنح الجنسية السورية للمقاتلين الأجانب الذين عاشوا سنوات طويلة في سوريا و”ثبتوا إلى جانب الثورة” على حد قوله، إلّا أن هذا الطرح يثير مخاوف لدى عدد من الدول الغربية، التي تخشى من أن تتحول سوريا ملاذاً للمتطرفين، لكن الشرع سعى إلى طمأنتهم وفق الصحيفة، مؤكداً التزامه بمنع استخدام الأراضي السورية لتهديد أي دولة أخرى.

المقاتلون الإيغور.. بين الدمج والتطرف

لم يكن أمام الحكومة السورية الجديدة هامش كبير للمناورة في التعامل مع ملف المقاتلين الأجانب، خصوصاً في ظل هشاشة المرحلة الانتقالية وخطورة ترك هذه القوى دون أفق واضح. فاستبعادهم أو ترحيلهم بالقوة لن يكن مجرد قرار سياسي صعبـ بحسب مراقبين ـ بل مخاطرة أمنية حقيقية قد تفتح الباب أمام عودة كثيرين منهم إلى أحضان تنظيمات جهادية عابرة للحدود.

وكان مصدران مقربان من وزارة الدفاع السورية قالا لوكالة رويترز إن الشرع والمقربين منه حاولوا إقناع مفاوضين غربيين بأن ضم مقاتلين أجانب إلى الجيش سيكون أقل خطورة من التخلي عنهم، الأمر الذي قد يدفعهم إلى الانضمام مجددا لتنظيم القاعدة أو تنظيم الدولة.

وفي هذا السياق يوضح الباحث حسن أبو هنية أن دمشق نجحت في إقناع واشنطن والعواصم الأوروبية بأن المرحلة تتطلب “حلولاً واقعية لا مثالية”، قائلاً: “أوضحت الحكومة السورية أنها أما احتمالين؛ إما أن تدمج هذه القوة ضمن وزارة الدفاع وتخضعها للقوانين السورية، أو أن تستجيب للضغوط بإخراجهم، فتدفعهم بذلك نحو التطرف، والانضمام إلى صفوف “داعش” أو “القاعدة”.

ومن الطبيعي في هذه الحالة ـ يتابع هنيةـ أن يعودوا للقتال في صفوف تنظيم داعش أو القاعدة أو حراس الدين. لهذا كان خيار الدمج هو الأكثر عقلانية، وهو ما أقنع واشنطن وحلفاءها بخفض سقف الشروط والتعامل بمرونة مع هذا الملف.

وفي خطوة فعلية في هذا الاتجاه قرر الحزب الإسلامي التركستاني، المؤلف في غالبية أفراده من الإيغور الصينيين حل الحزب والانضمام إلى وزارة الدفاع وفق شروطها. وقال عثمان بوغرا، وهو مسؤول سياسي في الحزب الإسلامي التركستاني، لرويترز في بيان مكتوب، إن الجماعة حلّت نفسها رسميا واندمجت في الجيش السوري، وأضاف أن الجماعة تعمل حاليا بالكامل تحت سلطة وزارة الدفاع، وتلتزم بالسياسات المتبعة في البلاد، وتحافظ على عدم الارتباط بأي كيانات أو جماعات خارجية.

ما علاقة الصين؟

لم يكن التحول الأميركي تجاه ملف المقاتلين الأجانب في سوريا نابعاً فقط من ضرورات محلية تتعلق بالمرحلة الانتقالية، بل عكس أيضاً موازين صراع أوسع بين القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة والصين. إذ بات واضحاً أن واشنطن لا تنظر إلى الإيغور الموجودين في سوريا بوصفهم تهديدًا إرهابيًا صرفًا، بل ورقة جيوسياسية تستخدمها في مواجهة تمدد بكين ونفوذها الإقليمي والدولي.

ومن بين آلاف المقاتلين الأجانب الذين يُتوقع دمجهم في الفرقة 84 التابعة للجيش السوري الجديد، تنتمي النسبة الأكبر إلى “الحزب الإسلامي التركستاني”، وهو تنظيم جهادي إيغوري تعتبره الصين تهديدًا مباشرًا، في حين أزالت الولايات المتحدة اسمه من قوائم الإرهاب في عام 2020، في خطوة أثارت حينها الكثير من الجدل حول دوافعها السياسية.

ويؤكد الباحث في معهد كارنيغي، مهند الحاج علي، أن ملف المقاتلين الإيغور لا يمكن فصله عن التوتر الاستراتيجي المتصاعد بين واشنطن وبكين. فبحسب رأيه، تحظى قضية الإيغور باهتمام أميركي خاص، خصوصاً مع تركيز واشنطن المستمر على “الانتهاكات التي ترتكبها الصين ضد هذه الأقلية، ومساعيها لتغيير البنية الإثنية في إقليم شينجيانغ”.

ويرى الحاج علي في حديثه لموقع تلفزيون سوريا أن “هذا التحول يعكس رغبة أميركية في استثمار وجود الحزب التركستاني كورقة ضغط في مواجهة نفوذ الصين. فبدلاً من مطالبة الحكومة السورية الجديدة بطرد هؤلاء المقاتلين، يبدو أن واشنطن فضّلت القبول بدمجهم في الجيش الجديد، لاعتبارات عديدة منها أن وجودهم  في الجيش يمنح الولايات المتحدة فرصة لتوظيف هذا الملف ضمن معادلة تنافسها الاستراتيجي مع بكين”.

وبحسب تقرير صادر عن مجلة “فورين بوليسي” الأميركية فقد وصل آلاف الإيغور إلى سوريا عام 2012 قادمين من الصين عبر تركيا، وتقدر أعدادهم اليوم بنحو 15 ألف شخص، بينهم خمسة آلاف مقاتل، يتركزون في إدلب ومحيط جسر الشغور. ويطلق عليهم السوريون اسم “التركستان”، وقد أسسوا مدارس ومشاريع صغيرة من مطاعم ومحطات وقود، كما التحق المئات منهم بجامعة إدلب مجانًا، شأنهم شأن الطلاب السوريين.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى