
منذ توليه منصب وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، برز توم فليتشر أحد أبرز الأصوات التي تدافع عن حقوق المدنيين وحماية الكرامة الإنسانية في أوقات النزاع، خصوصاً في الأزمة الإنسانية الحادّة التي تواجهها غزّة ، والحرب الٳسرائيلية التي حوّلتها ٳلى “مقبرة جماعية ” لآلاف الأطفال، ولكن أيضاً للذين يحاولون مساعداتهم. ودقّ ناقوس الخطر ٳزاء ما يجري في اليمن وسورية وأوضاع صعبة تؤثر على حياة الأطفال والنساء والمدنيين في بلاد تئن من الحروب والصراعات المستمرّة، حيث يقود مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، خلفاً لمارتن غريفيث.
يمثّل فليتشر جيلاً دبلوماسيّاً جديداً يحترم معنى الإنسان وكرامته وحريته، ويرى أن الدبلوماسية لا تنجح إلا إذا كانت جزءاً من بيئة إنسانية مرئية بوضوح، لا تُخفي الوضع الٳنساني الكارثي في غزّة في ظل الحصار والمجاعة الشاملة والظروف المرعبة.
التقييم العام قاتم. فمنذ 18 مارس/ آذار، خرّب بنيامين نتنياهو الهدنة التي جرى التوصل إليها في غزّة قبل أيام فقط من تنصيب دونالد ترامب رئيساً. ومنذ ذلك الحين، قُتل آلاف المدنيين الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال، وتعرّضت حياة المحتجزين الباقين للخطر. جرى تدمير معظم المباني والبنى التحتية، ولم يعد آخر مصنع لتحلية المياه يعمل.
حذّرت الأمم المتحدة من أن الوضع في غزة بلغ أسوأ مراحله منذ بداية الحرب
لقد حذّرت الأمم المتحدة من أن الوضع في غزة بلغ أسوأ مراحله منذ بداية الحرب.. وقد أطلقت 12 من أكبر منظمات الإغاثة الدولية نداءً مشتركاً يائساً، لكن هذه المناشدات لا تلقى آذاناً صاغية، فقد كرّر بتسلئيل سموتريتش أن “لا مساعدات ستدخل غزّة”، وأن هناك ضغطاً أقصى يُمارس لـ”إجلاء السكان إلى الجنوب وتنفيذ خطة الرئيس ترامب للهجرة الطوعية لسكان غزة”. وكان وزير الحرب، يسرائيل كاتس، قد قدّم الخطة بالفعل إلى مجلس الاتحاد الأوروبي في أوائل 2024 عندما كان وزيراً للخارجية. وقد استولت القوات الإسرائيلية على أراضي القطاع وأصدرت أوامر إخلاء لثلثي سكانه، ما جعل تلك المناطق فعلياً “مناطق محظورة”، بما فيها مدينة رفح الحدودية. لقد تحوّلت غزّة إلى حرب تُشنّ أساساً ضد الأطفال والنساء والمدنيين.
مع ذلك ، يواصل فليتشر في الأمم المتحدة تطبيق الميثاق الٳنساني بشجاعةٍ ومسؤولية لمواجهة تدهور الأوضاع، فيسعى إلى تحويل العمل الإنساني من مجرّد استجابة للأزمات إلى قوة فاعلة لبناء السلام والعدالة، ما يمثل نداءً مشتركاً ونواة لتحالف أكبر دولي أخلاقي و قانوني وسياسي وٳعلامي، يؤسّس لذاكرة حيّة تدافع عن الٳنسانية في انهيارها الأخلاقي الكامل، لكن هذه المناشدات لا تلقى آذاناً صاغية.
ويبدو أن الهدف إيجاد ظروف تتيح تنفيذ أكبر عملية تطهير عرقي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إن القول إنه “لن تدخل حبة قمح واحدة غزّة” يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الإنساني الدولي. ومن المستحيل عدم رؤية هذا نية للإبادة، وهي نية أخذتها المحكمة الجنائية الدولية بالفعل بالاعتبار عندما أصدرت مذكرات توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق، غالانت. ولا يقلّ ذلك عما خلصت إليه العدالة الدولية في سريبرينيتسا ورواندا.
لا يكتفي فليتشر برؤيته الحالية في الأمم المتحدة بإدارة الأزمات، بل يسعى إلى إعادة تعريف العمل الإغاثي ليكون أكثر شفافية، شمولاً، وتطويراً لخطة الاستجابة الٳنسانية 2025. وبالفعل، قدّمت الأمم المتحدة خططاً لتوزيع المساعدات الٳنسانية ومراقبتها، منعاً للفوضى في رفح وما هو أسوأ.
يسعى المسؤولون الاسرائيليون إلى ٳغلاق نظام المساعدات الحالي الذي تديره 15 وكالة تابعة للأمم المتحدة، ومائتي منصّة حكومية وشركاء
تعود معرفة توم فليتشر إلى العام 2016، دبلوماسياً شغل منصب سفير المملكة المتحدة في لبنان بين عامي 2011 و2015 وتميز بأسلوب دبلوماسي مبتكر. وكان أصدر قبل مغادرته لبنان كتابه “الدبلوماسي العاري: القوة والسياسة في العصر الرقمي”، (حرص رئيس الحكومة اللبناينة الأسبق تمام سلام من موقعه الرسمي على التعريف به)، وهو عمل يجمع بين التجربة الشخصية والرؤية المستقبلية، ويقدّم نقداً وتحليلاً جريئاً للدبلوماسية التقليدية في مواجهة عالم سريع التغيّرات بفعل التكنولوجيا، وينتقد فيه البيروقراطيات الدبلوماسية. فيما يدعو إلى “إعادة تصميم مؤسسات السياسة الخارجية لتكون أكثر مرونة، تفاعلية، متصلة بالمجتمع بصدق، بسرعة، وبصوت بشري”.
ترمز العبارة إلى الصدق. فـ”العري” هنا هو مواجهة الحقيقة في انكشاف الٳبادة الجماعية القائمة في غزّة، في وقتٍ يزعم فيه البربري والمحتل الٳسرائيلي وقف ٳطلاق النار، ويسعى ٳلى تقديم المساعدات للمدنيين الفلسطينيين، وفتح مرفق جديد خلف جيب من الرمال في رفح لمن يريدون الطعام.
لم يكن كتابه مجرّد نقدٍ نظري أو مذكرات مهنية، بل كان مانيفستو مستقبليّاً. واليوم ، يمكن تلمّس كيف ترجم أفكاره إلى ممارسة في عالمٍ تتآكل فيه الثقة بين الشعوب والحكومات، وتتفكّك فيه القواعد القديمة للدبلوماسية. ويتجلى ذلك في التزامه العميق بمبادئ الحياد والاستقلال في العمل الإنساني، حيث يؤكّد باستمرار على أن المساعدات يجب أن تصل إلى جميع المحتاجين في غزّة، وٳلى حركة حماس، بغض النظر عن الانتماءات السياسية أو الدينية، مع الحفاظ على كرامة الفلسطيني في قلب هذه الاستجابة الدولية، و”المساعدات الإنسانية يجب أن تبقى مستقلة وحيادية، وأن تصل إلى جميع المحتاجين من دون تمييز أو تسييس”.
وفي مواقف حاسمة، يصف الخطة المدعومة من الولايات المتحدة بأنها “غطاء زائف” يهدف إلى تهميش دور الأمم المتحدة في توزيع المساعدات، وسيكون لها مستقبل رصيف غزّة 2024، وتنطوي على مخاطر ومشكلات قانونية وتشغيلية كثيرة تشكلها شركات الأمن الخاصة، المفترض أن تؤمن النقل. وعلى هذا الأساس، تقوّض الدولة العبرية، باعتبارها المتعاقد والمسؤول العملي عن ٳدارة غزّة، بمهام عالية المخاطر.
من تصريحاته ومواقفه في أزماتٍ كثيرة، خصوصاً في مناطق النزاعات، يظهر فليتشر التزاماً قويّاً بمبادئ الأمم المتحدة
يسعى المسؤولون الاسرائيليون إلى ٳغلاق نظام المساعدات الحالي الذي تديره 15 وكالة تابعة للأمم المتحدة، ومائتي منصّة حكومية وشركاء، ولا يقول المشروع الذي قدّمته “مؤسّسة غزّة”، شيئاً عما سيحدُث خارج “المناطق الٳنسانية”، حيث يبلغ عدد السكان نحو مليوني شخص، وٳعادة توجيه المساعدات ٳلى ممرّات ضيقة من الصعب التحكّم بها أو مراقبتها. ويحذّر العاملون في المجال من أن هذه الآلية قد تؤدّي ٳلى ٳثارة العنف وتفاقم الأوضاع وتفاوتات في التوزيع، مع تحذير المراقبين من سابقة شركة بلاك ووتر في العراق، كما أن خططاً خارج إطار الأمم المتحدة تكلف أكثر من الآليات المعتادة، وتقود الجيش الٳسرائيلي ٳلى احتلال جديد، في ظل عدم وجود خطة للخروج، وما يفاقم الحصار المالي على غزّة، وتهميش دور الأمم المتحدة ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) في الشرق الأوسط.
من تصريحاته ومواقفه في أزماتٍ كثيرة، خصوصاً في مناطق النزاعات، يظهر فليتشر التزاماً قويّاً بمبادئ الأمم المتحدة، متحدّياً التحدّيات السياسية واللوجستية والٳدارية. وتبرز حقيقة الحاجة ماسّة إلى هذا الجيل من الدبلوماسيين. لا أولئك الذين يجمّدون الدماء في النصوص، بل الذين ينفخُون الروح في السياسة، ويجعلون من الكرامة البشرية معياراً للنجاح، لا مجرّد شعارات.
مثل هذا الجيل قد لا يوقف الحروب، ولكنه وحده القادر على أن يوقف مبرّراتها.
المصدر: العربي الجديد