هل ينبغي حقاً إعادة السوريين؟

آلاء عوض

رغم سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ديسمبر 2024، إلا أن واقع الحال في سوريا لم يشهد بعدُ استقرارا كافيا يبرر إنهاء الحاجة إلى الحماية الدولية. فلا تزال البلاد تمرّ بمرحلة انتقالية دقيقة، وتحديات على مستوى الإدارة، وتفكك جزئي في البنية المؤسسية، كما أن النزاعات المحلية والتوترات المجتمعية لا تزال تطرح تحديات أمام تحقيق استقرار شامل يمكن الركون إليه كقاعدة لإعادة اللاجئين.

وعلى الرغم من هذه الظروف، اتجهت عدة دول أوروبية إلى تعليق استقبال طلبات اللجوء من السوريين إلى أجل غير واضح. في حين أعلنت دول أخرى نيتها إعادة النظر في ملفات الحاصلين على الإقامة، من دون الاستناد إلى تقييمات ميدانية شاملة للواقع السوري، بل إلى اعتبارات سياسية داخلية تتغير بتغير المزاج العام واتجاهات الرأي. وفي حين توقّع السوريون لحظة لالتقاط الأنفاس، وجدوا أنفسهم عالقين بين حدود مغلقة، ومخيمات نائية، وقرارات مؤجلة.

ومع تصاعد التيارات اليمينية وتغيّر أولويات السياسات الأوروبية، ازدادت هشاشة الوضع القانوني للاجئين السوريين، وبات خطاب التخويف منهم أقرب من أي وقت مضى إلى التحوّل إلى نهج سياسي معلن.

في كتابه “الحب السائل”، ينقل عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان رؤية الصحفي الأميركي دونالد مكنايل القائلة إن “الساسة يعملون قوادين للخوف من الجريمة”، ويشرح كيف تتحوّل هذه العبارة إلى استراتيجية منظمة لربط “الخوف من الدخلاء” بالإحساس المتزايد بانعدام الأمان. يتحدث باومان عن معادلة مكرورة أصبحت تُستنسخ عبر أوروبا: كل اضطراب اجتماعي، أو تأخر اقتصادي، أو تدهور أمني، يجد تفسيره الجاهز في “المهاجر” و”اللاجئ”، الذي سرعان ما يُحوَّل إلى “كبش فداء” يُلقى عليه اللوم، لا باعتباره فردا، بل صورة نمطية.

في كتابه “الحب السائل”، ينقل عالم الاجتماع البولندي زيجمونت باومان رؤية الصحفي الأميركي دونالد مكنايل القائلة إن “الساسة يعملون قوادين للخوف من الجريمة”، ويشرح كيف تتحوّل هذه العبارة إلى استراتيجية منظمة لربط “الخوف من الدخلاء” بالإحساس المتزايد بانعدام الأمان

في ألمانيا، تصاعدت في الآونة الأخيرة حدة الخطاب السياسي المناهض للاجئين، خاصة من قبل حزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، الذي يدعو بشكل متكرر إلى إعادة اللاجئين السوريين بدعوى تحسّن الأوضاع الأمنية في سوريا، متجاهلا التقارير الدولية التي تؤكد استمرار المخاطر وعدم توفر شروط العودة الآمنة. وقد رافق ذلك طرح مشاريع لتقييد الإقامات المؤقتة (الحماية)، إيقاف لم الشمل، وربط تجديد الإقامة القانونية بعوامل تتعلق بـ “الاندماج” أو “السلوك الشخصي”، في منحى يعكس توجها متزايدا نحو التشديد القانوني والتضييق الإداري.

وامتدادا لهذا الخطاب، ازدادت في هولندا دعوات زعيم حزب الحرية، خيرت فيلدرز، إلى إغلاق الحدود وترحيل السوريين، متبنّيا سردية تعتبر الهجرة تهديدا مباشرا للأمن القومي والثقافة المحلية. وتحت عناوين مثل “الحفاظ على الهوية” و”السيادة الوطنية”، تُسنّ قوانين قاسية، ويُعلّق حق اللجوء، وتُدار ملفات اللاجئين في أجواء من الغموض والتسويف.

المفارقة أن هذا الخطاب لا ينحصر في دوائر السياسيين، بل يتسرّب إلى اللاجئين أنفسهم  في مجموعات فيسبوكية سورية، تتكاثر الأصوات التي تطالب بضبط اللاجئين “المسيئين”، وتتحدث عن “إحراج” تتسبب به فئة من أبنائهم في المخيمات. هذا الانقسام الداخلي مؤلم، ويعكس مدى الضغط النفسي والاجتماعي الواقع على اللاجئين الذين يجدون أنفسهم محاصرين بين العنصرية والشعور بالذنب.

والأخطر من ذلك هو التوظيف الطائفي في الخطابات والسياسات، حيث يُثار الحديث عن تمييز ضمني بين اللاجئين السوريين بناءً على خلفياتهم الدينية أو الطائفية، في مشهد سوريالي يُعيد إنتاج سرديات الحرب الأهلية. يُشاع أن “السنّة سيرحَّلون” في حين يُقبل غيرهم، وكأن الحماية تُوزع وفق خرائط الطائفة لا استحقاقات الحماية والكرامة الإنسانية.
اللافت أن الحكومة الهولندية تعمّدت عدم نشر تقريرها الأمني عن سوريا بعد سقوط نظام الأسد في 8 ديسمبر 2024، لتترك طالبي اللجوء في متاهة قانونية وأخلاقية. لا رفض واضح ولا قبول، فقط انتظار المجهول، وقلق، وحياة معلّقة.
ولعلّ واحدة من أكثر القصص تعبيرا عن تعقيدات هذا الملف، ما روته سيدة سورية وصلت مؤخرا إلى هولندا عبر لمّ الشمل، عن ابنتها التي لا تزال عالقة في تركيا برفقة طفليها، البالغين من العمر أربعة وستة أعوام، في ظروف معيشية قاسية ومفتقرة إلى الحد الأدنى من الاستقرار.

زوج ابنتها كان قد سافر إلى هولندا قبل نحو عام، وهو اليوم عالق في مسار إجراءات لجوء لم تُحسم بعد، فلا هو قادر على العودة إلى تركيا، ولا يملك يقينا بمصير طلبه في بلد اللجوء. وفي غيابه، تُضطر زوجته إلى العمل لساعات طويلة في مصنع ملابس تركي، لتأمين احتياجات أبنائها، في حين يُترك الطفلان وحيدين في المنزل، أكبرهما – وهو في السادسة – يتحمّل مسؤولية رعاية شقيقه الأصغر.

وبالنظر إلى الواقع المعقّد الذي يعيشه اللاجئون السوريون بعد سقوط نظام الأسد، تبرز مفارقة لافتة: فبينما يُفترض أن نهاية حكم استبدادي تمهّد لمرحلة من الأمان والعودة، يظهر أن ما نشأ فعليا هو موجة جديدة من التخبط والضياع، خصوصا لدى السوريين في الخارج. هؤلاء لم يعودوا مجرد لاجئين، بل باتوا شريان دعم حيوي لأسرهم في الداخل، حيث ما تزال تعتمد شريحة واسعة من السوريين على الحوالات المالية الخارجية لتأمين الحد الأدنى من متطلبات المعيشة، وسط أوضاع اقتصادية خانقة.

إن استخدام خطاب “انتهت الحرب، فليعودوا” يتجاهل كرامة البدء كما أن التركيز على صورة “اللاجئ المسيء” – الذي يُحمَّل تبعات فردية على حساب جماعة كاملة – يُعيد إنتاج سرديات قديمة طالما استخدمتها الأنظمة القمعية لتبرير سياساتها الإقصائية.
من جهة أخرى، تُسهم بعض التيارات، عن قصد أو غفلة، في تعميق مأساة اللجوء السوري؛ إذ تُمرّر السياسات من خلال إثارة البروباغندا وترويج انطباع نمطي عمّا ينبغي أن يكون عليه اللاجئ، فلا تكتفي بتقليص الحقوق، بل تُخضعه لتقييمات فضفاضة وغامضة، بعيدة عن معايير الحماية الدولية، وتُبقي باب اللجوء مفتوحا لا كحقّ أصيل، بل كمنّة قابلة للسحب في أي لحظة.

ويبدو السوريون، في هذا السياق، وكأنهم يعيشون على هامش السياسة والمعنى معا. كما يشير زيجمونت باومان في كتابه الحب السائل، مستشهدا بالفيلسوف جاك دريدا، في وصفه لحياة اللاجئين: “إنهم ليسوا فقط منبوذين، إنهم خارج طوق الفكر”.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى