“أميركا المتواضعة” في “سوريا الجديدة”

إياد الجعفري

كتب المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، قبل أيام، منشوراً ذكياً يندرج في سياق ما يُعرف بـ “الدبلوماسية الشعبية” التي تستهدف التأثير في الرأي العام وإغواءه.

ولا يعني ذلك أن الرجل كان يكذب في مجمل منشوره، بقدر ما كان يعبّر عن رغبة في تعظيم أدوات القوة الناعمة الأميركية، في نظام دولي يتسم بـ “التعددية القطبية”، تراجعت فيه قدرة الغرب على الهيمنة المباشرة، وصعد فيه دور القوى الإقليمية بصورة ملحوظة.

في نظام دولي من هذا الطراز، يكثر اللاعبون، وتزداد فوضى العلاقات الدولية، وتزداد الحروب والصراعات المسلحة. ووفق المتخصصين، كانت الحربان العالميتان، الأولى والثانية، نتاج نظام دولي “تعددي الأقطاب”.

وقد اختبر العالم إرهاصات التحوّل إلى “التعددية القطبية” منذ نهايات العقد الأول من القرن الحالي. وكانت سوريا خلال العقد الثاني منه، إحدى ساحات الحروب بالوكالة بين اللاعبين الكثر، واختباراً جلياً لمحدودية قدرات كل منهم، وعجزه عن حسم المشهد وحده.

تبقى إشارات باراك الأخرى، في منشوره الملفت، تعبيراً عن فهم متواضع وحذق، لمحدودية القدرة الأميركية الصرفة، والحاجة للشركاء في المنطقة، وداخل سوريا ذاتها.

مع ميل الكفّة لصالح قوى الإقليم، مقارنة بالقوى الدولية. لكن الكلفة الباهظة الناجمة عن ذلك، لم ينحصر أثرها على السوريين فقط، بل طالت بآثارها السلبية معظم الدول الجارة لسوريا، وصولاً إلى أوروبا. وقد أظهرت التجربة السورية، كنموذج من نماذج محاولة اللاعبين الإقليميين والدوليين، ترتيب قواعد لـ “تعددية قطبية مضبوطة”، أن “التعاون التنافسي” خرج عن السيطرة، و”قواعد الصراع” المرسومة كُسرت، جراء محاولة كل لاعب توسيع الهامش المتاح له. فكانت الخاتمة انهيار قوة محلية مسيّطرة، وصعود أخرى، بصورة، يعتقد كاتب هذه السطور، أنها فاجأت معظم اللاعبين الإقليميين والدوليين، خلافاً لما تذهب إليه بعض التحليلات، بهذا الصدد.

وإن احتُسب هذا التحوّل في سوريا، بوصفه “نصراً” لقوى إقليمية (تركيا، قطر، السعودية..)، على حساب أخرى (إيران، إسرائيل..)، وبوصفه يصب في صالح قوى دولية (الغرب)، على حساب أخرى (الصين وروسيا)، إلا أنه يبقى أن خاتمة هذه التجربة في سوريا، كانت كفيلة بإظهار محدودية قدرة أي لاعب، إقليمياً، كان أم دولياً، على الحسم والتحكم في الأمور.

وكانت اختباراً لقدرة القوة الصلبة (العسكرية والأمنية) على الفعل، في ظل كثرة اللاعبين المنافسين. وهو الاختبار الذي جاء بنتائج سلبية للاعبين أنفسهم. مما رفع من أسهم “القوة الناعمة”، وإحدى أدواتها الأبرز، الدبلوماسية القائمة على نسج الشراكات، كما أشار المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، توم باراك، في منشوره المشار إليه.

وإن كانت إشارة باراك في عبارته “لقد انتهى عصر التدخلات الغربية”، تبدو أقرب للمغازلة الموجهة للشارع العربي –السوري خصيصاً-، الذي يحمل لاوعياً موروثاً، ينظر بسلبية لمواقف الغرب حيال المنطقة، منذ أكثر من قرن، تبقى إشارات باراك الأخرى، في منشوره الملفت، تعبيراً عن فهم متواضع وحذق، لمحدودية القدرة الأميركية الصرفة، والحاجة للشركاء في المنطقة، وداخل سوريا ذاتها.

واشنطن تفضّل التدخل الإيجابي الناعم بسوريا، عبر الشراكات والاستثمارات والدبلوماسية، بدل التدخل السلبي الصلب عبر القوة العسكرية أو محاولات الهيمنة والاستتباع.

إلا أن أبرز ما حملته إشارات باراك، تلك التي تعبّر عن عدم رغبة الغرب بتقسيم سوريا. وكان لافتاً أن منشور باراك، جاء بعيد لقائه بالرئيس أحمد الشرع، في تركيا. الشرع وفق بيان الرئاسة السورية، شدّد خلال الاجتماع على رفض أي محاولات لتقسيم البلاد، وأكّد تمسّك الحكومة السورية بوحدة وسيادة الأراضي السورية. ولا بد أن باراك طمأن الشرع، في لقائهما، بأن واشنطن لا تؤيّد أية مشاريع لتقسيم سوريا. ومن ثم، قال باراك ذلك مباشرةً، في منشوره الموجّه للرأي العام الشعبي –السوري بصورة خاصة-، كرسالة طمأنة وتودّد حيال شعب يعرف الرجل المتحدّر من أصول لبنانية، طبيعة نظرته المرتابة حيال السياسات الغربية في المنطقة.

ولا يعني ذلك، أن باراك لم يقصد ما قاله بخصوص إدانة دور الغرب بتقسيم شرق المتوسط، في إشارته لإرث معاهدة سايكس – بيكو. لكنه لا يعني، بالضرورة، إدانة أخلاقية، بقدر ما هي فهم لمحدودية قدرة الغرب، بما فيه الولايات المتحدة، على الهيمنة المباشرة، والحاجة للشراكات مع قوة سورية فاعلة –الحكومة بدمشق-، والقوى الإقليمية المؤثرة فيها (تركيا والخليج)، كي يحقق مصالحه، بصورة أفضل، وبكلفة أقل.

وبالإشارة إلى التكلفة الأقل، يدرك صانع القرار الأميركي، الكلفة الباهظة المحتملة لانفراط عقد الكيان السوري باتجاه حرب أهلية أو فوضى شاملة، كما أشار إلى ذلك، بصورة علنية، وزير الخارجية ماركو روبيو، خلال جلسة الاستماع التي عقدها مجلس الشيوخ، قبل نحو أسبوع.

كلام روبيو حينها، مضافاً لمنشور باراك بعدها بأيام، يكشف كيف أن واشنطن تفضّل التدخل الإيجابي الناعم بسوريا، عبر الشراكات والاستثمارات والدبلوماسية، بدل التدخل السلبي الصلب عبر القوة العسكرية أو محاولات الهيمنة والاستتباع. وهو ذات النَفَس الذي يحكم نظرة الأوروبيين لمصالحهم في سوريا، أيضاً. حيث الاستقرار غاية مهمة.

هي لحظة فريدة في تاريخنا، كسوريين، أن تتلاقى مصالح الأغلبية منا، مع مصالح الغرب ومعظم دول الإقليم. وبينما تزداد أدوار القوى المحلية والإقليمية الصاعدة في ظل “التعددية القطبية” الراهنة، تزداد الفرص، والمخاطر أيضاً.

لكن يمكن القول، إن اقتناص الفرص المتاحة، ولجم المخاطر المرافقة لها، أمر متاح بصورة كبيرة، لنا، كسوريين، اليوم. وهو ما يميّز هذه اللحظة الفريدة، التي يجب الإمساك بها بقوة، وعدم تضييعها. لأنها قد تكون لحظة النهوض بهذا البلد المنكوب، نحو مسيرة تنمية نوعية شاملة، قد تصبح بعد عقود، موضع إشادة تاريخية من دارسي تجارب الشعوب التي تنفض عن كاهلها غبار المآسي، وتحقق أنموذجاً للارتقاء.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى