
من البديهي أن تُفضي الثورات الشعبية على الأنظمة الاستبدادية إلى مرحلة تستدعي جهوداً حثيثةً لبناء الدولة، وسورية ليست باستثناء، فالشواهد على ذلك كثيرة. إلا أنّ الحالة السورية تستوجب قدراً أكبر من الاهتمام والتركيز، ولعلّ أبرز مسوّغات ذلك أنّ سورية شهدت عقوداً طويلة من الحكم الاستبدادي، تراكمت خلالها مظالم سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة، ثمّ جاءت الثورة عام 2011، وما تلاها من صراع دموي، لتزيد المشهد تعقيداً، إذ انكشفت هشاشة البنية السياسية والاجتماعية، وبرزت الحاجة الملحّة إلى إعادة بناء عقد اجتماعي جديد يعيد الاعتبار للمواطنة والكرامة والعدالة.
اللافت للنظر في السياق السوري أنّه لا يتبع المسار التقليدي المعتاد لعمليات الانتقال السياسي، كما هو الحال في العديد من التجارب الأخرى في مصر وتونس، بل يمرّ بمسارٍ أكثر تعقيداً يمكن تلخيصه بأربع مراحل متداخلة: من دولةٍ إلى لا دولة، ثمّ إلى الثورة، وأخيراً إلى محاولة إعادة تأسيس الدولة. هذا التسلسل غير النمطي يفرض مقارباتٍ خاصّةً لفهم الواقع السوري والتعامل معه، خصوصاً أنّ مسألة بناء الدولة لا تبدأ من نقطة الصفر فحسب، بل من تحت الصفر، في ظلّ الانهيار الكامل لمؤسّسات الدولة، وانقسام المجتمع، وفقدان الثقة بين المكوّنات المختلفة.
تؤكّد رؤية أولوية العدالة الانتقالية، وذلك من خلال وضع مرجعيات قانونية تضمن الحقوق الناجمة عن الأضرار والانتهاكات التي ارتُكبت
ومن الجدير بالملاحظة هنا أنّ تجارب ما يُعرف بثورات “الربيع العربي” لا تصلح أن تكون مرجعية موحّدة لفهم الواقع السوري، نظراً إلى اختلاف السياقات وتشابك العوامل، فالاستبداد حين يتجذّر ويُكرّس عبر عقود، كما في الحالة السورية، ينتج بيئةً أكثر استعصاء على التغيير. وهنا يمكن مقارنة ما يجري في اليمن وليبيا والسودان من انفلات واحتراب طويل مع الاستقرار النسبي في مصر وتونس، لتتضح حقيقة أن مقاومة الاستبداد ليست عمليةً واحدةً في جميع البلدان، وأنّ تعميم المقاربات في هذا السياق قد يقود إلى استنتاجات مُضلِّلة.
من هذا المنطلق، من المهم استجلاء السجال الحاصل في سورية في ما يخصّ الجدال بشأن إشكالية حسم الأولويات بين العدالة والمصالحة، وكيفيّة التوصّل إلى رؤيةٍ تنجلى فيها هذه الضبابية المعيقة للاستقرار والتنمية، وذلك بغية المساهمة في مساعي تجاوز المأزق الراهن. فعند تفحّص الأدبيات ذات الصلة، بما في ذلك النظر إلى الحالات المماثلة، نجد أنّ هناك عدّة مقاربات ومدارس فكريّة بخصوص مسألة الأولويات، في ما يتعلّق بالجدل حول إشكالية الأولويات بين العدالة والمصالحة.
فهناك رؤية تؤكّد أولوية العدالة الانتقالية، من خلال وضع مرجعيات قانونية تضمن الحقوق الناجمة عن الأضرار والانتهاكات التي ارتُكبت، وتتضمّن الإجراءات والأطر المؤسّساتية الرسمية الراعية والداعمة لجهود المصالحات، وما ينجم عنها من توافقات ونتائج. وهناك رؤية أخرى مناقضة للأولى، تستند إلى فرضيّة مفادها بأنّ المصالحة عمليّة استباقية للعدالة الانتقالية، وبالتالي، لا يمكن تحقيق الأخيرة وتفعيلها إلا بإجراء مصالحة وطنية شاملة.
وهناك توجّه يمزج بين الرؤيتَين السابقتَين، أي يؤسّس منطلقاته الفكرية على تلازم متوازٍ لعمليتي العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية، بحيث لا يمكن تحقيق إحداهما من دون الأخرى. هذا المنحى يُعوّل أساساً على التفسيرات والاجتهادات القانونية لهذه العلاقة، والتي تؤكّد أنّ المصالحة جزء لا يتجزّأ من منظومة العدالة، ويؤكّد حتمية التماهي بين الموضوعَين، وذلك من حيث درجة الترابط والتشابك والتداخل والاعتمادية. أي بمعنى أنّهما (العدالة والمصالحة) تدخلان ضمن إطار بنيةٍ متكاملةٍ تتمثّل في العدالة الاجتماعية، ولهذا لا يمكن تحقيق نجاح لأيّ منهما بمعزل عن الأخرى.
أيّ انحياز مسبق لأحد المسارَين على حساب الآخر (سواء العدالة أو المصالحة) قد يُفضي إلى تكريس الانقسام وإجهاض فرص بناء دولة القانون
من هذا المنظور، فإنّ الحالة السورية تقتضي تجاوز النقاش النظري بين هذه المقاربات الثلاث، والتوجّه نحو صياغة رؤية واقعية تأخذ في الحسبان تعقيدات السياق السوري، وحجم التركة الثقيلة من الانتهاكات والانقسامات، فضلاً عن الحضور الإقليمي والدولي في تفاصيل الملفّ السوري، وهو ما يجعل من مسار العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية مشروعاً سياسياً وقانونياً واجتماعياً معقداً، لا يمكن حسم ترتيبه أو أسبقيته، إلا ضمن إطار وطني جامع، تتوافر فيه الإرادة السياسية والتوافق المجتمعي.
فأيّ انحياز مسبق لأحد المسارين على حساب الآخر (سواء العدالة أو المصالحة) قد يُفضي إلى نتائج عكسية، تكرّس الانقسام وتُجهض فرص بناء دولة القانون. فإذا فُرضت العدالة بمنطق الثأر من دون مراعاة الظروف السياسية والاجتماعية، فإنّها قد تُعمّق الشروخ المجتمعية وتُغذّي النزعات الانتقامية، في حين أنّ الدفع بالمصالحة من دون تأسيس قانوني وأخلاقي سليم، قد يُفضي إلى مصالحة شكلية، تُكرّس الإفلات من العقاب، وتُفرّغ العدالة من مضمونها. من هنا، تبدو الحاجة ماسّة إلى تطوير مقاربة سورية خالصة للعدالة الانتقالية، تُبنى على أسس الحوار الوطني، والمكاشفة المجتمعية، وإشراك الضحايا في رسم معالم المرحلة الانتقالية. ولعلّ التحدّي الأبرز في هذه المقاربة يكمن في القدرة على تحقيق التوازن بين مقتضيات العدالة والضرورات السياسية، من دون الوقوع في فخ الانتقام أو ثقافة العفو المجاني.
المصدر: العربي الجديد