
نجحت وساطة أميركية سعودية، في 10 مايو/أيار الحالي، في التوصّل إلى وقف إطلاق النار بين الهند وباكستان، بعد أسبوعين من اشتباكات محدودة وقويّة بينهما. وبينما كان خبر وقوع الاشتباكات سيئاً، فإن عدم اتساع نطاق المواجهة بين البلدَين النوويّين، والمسارعة إلى إطفاء التوتّر العسكري، شكّلا معاً خبراً طيباً. وطوال عقود، لم ينجح البلدان في إقامة معاهدة سلام بينهما، واكتفيا في كلّ مرّة بالتوصّل إلى اتفاقية وقف إطلاق نار، ما ينذر ببقاء التوتّر بينهما.
الجديد في هذه المواجهة (الرابعة بين الجارَين اللدودَين) أن الجانب الباكستاني أثبت صموداً ظاهراً، وقدرةً فائقةً على اختراق الحدود، وأن جبهته العسكرية لم تهتزّ، رغم فوارق بنيوية بين البلدَين تصبّ في مصلحة الهند، وقد لوحظ أن المسؤولين الهنود فوجئوا بمدى نجاعة الردّ الباكستاني، وبمدى كفاءة الأسلحة والتجهيزات لدى الطرف الآخر، وهو إدراك متأخّر يكشف إخفاقاً استخباريّاً وأمنيّاً، ظلّ يتغطّى بثقة مُفرِطة في النفس لدى الهند، وبتبخيس لمستوى استعدادات الجانب الآخر. وعلاوة على ذلك، فإن الفشل في تسويغ المبادأة بالهجوم شكّلت إخفاقاً سياسياً للجانب الهندي، ففيما كانت النداءات تتعالى في المراكز الإقليمية والدولية داعيةً إلى ضبط النفس، وعدم الانسياق إلى مواجهة عسكرية مدمّرة، تغاضت نيودلهي عن هذه النداءات، لكنّها وجدت نفسها مدعوّةً للاستجابة لها بعد بدء الاشتباكات، وثبوت مدى حصانة التجهيزات الباكستانية. وعقب الهدوء الذي ساد الجبهتَين، فإن المسؤولين في إسلام آباد أبدوا الارتياح لما أسفرت عنه الاشتباكات من نتائج سياسية وعسكرية، ففي أذهان المعنيين والمتابعين أن إسلام أباد كانت بالفعل في موضع الدفاع عن النفس، وأن دفاعها ظهر على درجة ملحوظة من الصلابة، مما قصّر أمد المواجهة، وضيّق نطاقها.
مع ذلك، قد لا تخلو احتفالات باكستان بالنصر من مبالغة، فالبلدَان لم يتوصّلا بعد نحو سبعة عقود إلى معاهدة سلام تفتح عهداً جديداً بينهما، والإخفاق الهندي هذه المرّة قد يورّث نزوعاً عسكرياً لإزالة هذا الأثر، ولم يجر وضع حلّ لمشكلة كشمير ذات الأغلبية المسلمة، ما يبقي اشتعال التوتّرات المسلّحة بينهما احتمالاً قائماً في المستقبل. وبالتوازي، لم تجد مشكلة إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان حلاً لها، وفيما تتهم نيودلهي إسلام أباد بدعم جهاديين في كشمير، تتهم إسلام أباد نيودلهي بدعم تمرّد قوميّين بلوش ضد إسلام أباد، علما أن إقليم بلوشستان الكبير يقع ضمن إيران وأفغانستان، ما يدلّل على مدى تعقيد التوتّرات العرقية والدينية في تلك المنطقة.
نجاح باكستان في المواجهة أخيراً مع الهند يدلّل على أن المناعة الذاتية مفتاح الصمود
وفي المحصلة، نجحت باكستان خلال هذه المواجهة في البرهنة على تعديل ميزان القوى على نحو أصبح معه شبه متوازن بين البلدَين. ومعلوم أن باكستان ربطتها علاقات وثيقة وطويلة الأمد بواشنطن إبّان الحرب الكونية الباردة، فيما نسجت نيودلهي علاقاتٍ وثيقةً في تلك الآونة بموسكو. ومع بدء الألفية الثالثة، شهدت علاقات إسلام أباد بواشنطن توتّراتٍ على خلفية الحملة ضد الإرهاب، فيما نجحت نيودلهي بإقامة علاقات وثيقة بكلّ من موسكو وواشنطن، ورغم أن علاقات واشنطن لم تلبث أن تحسّنت مع إسلام أباد، إلا أن الأخيرة أبدت انفتاحاً على الصين، على خلفية مشروع طريق الحرير، ولم تلبث العلاقات مع الصين أن شهدت نموّاً مضطرداً. أمّا موسكو فقد حافظت على قدر غير يسير من إرث الحرب الباردة، وظلّت علاقتها مع إسلام أباد فاترةً، وهو ما تبدّى عسكرياً في المواجهة أخيراً، فقد ظهرت في الجانب الهندي طائرات ميغ وسيخوي الروسيّة في سماء المعركة، إلى جانب طائرات فرنسية ومسيّرات إسرائيلية، فيما ظهرت في الجانب الباكستاني طائرات صينية ومسيّرات تركية، إضافةً إلى صواريخ طوِّرت محلّياً. فيما نجحت واشنطن بعض الشيء في إظهار حيادها بين الجانبَين، وهو ما جرى تتويجه في جهود الوساطة التي سرعان ما أثمرت وقفاً لإطلاق النار. ومن المفارقات اللافتة في تلك الاشتباكات المحتدمة أنها شهدت عبر الأسلحة المستخدمة مواجهةً غير مباشرة، ولا سابق لها منذ عقود بين روسيا والصين. وهو ما أضفى طابعاً يتخطّى البُعد الإقليمي على تلك المواجهة، فيما بدا الدعم الصيني الدفاعي لباكستان مؤشّراً على توسيع نفوذ الصين في مجال التنافس الحادّ مع الولايات المتحدة، والذي أفادت منه باكستان في النتيجة، وهو لا بدّ أن يسترعي انتباه صانعي القرات العرب، فإلى جانب العلاقات الوثيقة والتاريخية مع واشنطن، والتي أعادت إظهارها زيارة الرئيس دونالد ترامب إلى منطقة الخليج، فإن آفاق التعاون العربي الصيني تظلّ مفتوحةً على مديات واسعة، ليس بين ثاني اقتصاد في العالم (الصين) وتاسع اقتصاد في العالم (دول الخليج) فحسب، بل في نطاق أوسع يضمّ العالم العربي، إذ بات واضحاً أن الصين تمتلك إمكاناتٍ هائلةً ومتعاظمةً للتعاون في سائر المجالات، وأنه لا غنى عن الدور الصيني في معالجة الاختلالات الجيوستراتيجية، والعالم العربي بحاجة حقّاً كما هو حال باكستان إلى علاقات راسخة مع واشنطن وبكّين معاً، ومن دون إهمال المراكز الدولية الأخرى. وقد جاء نجاح باكستان في المواجهة أخيراً ليدلل على أن المناعة الذاتية هي مفتاح الصمود، إذ لم تستنجد بأحد في غمار هذه المنازلة الشرسة، وأدركت جيّداً المتغيّرات في العالم مع صعود الدور الصيني، وأقامت أوثق العلاقات مع هذا القطب الدولي الصاعد، ومن الواضح أن وزن الصين المتزايد يؤشّر إلى عالم ثنائي القطب قيد التبلور، وإن كان من المبكّر استخلاص قرب إعادة انقسام العالم بين معسكرَين.
المصدر: العربي الجديد