
منذ قرابة عقدَين ومعيار نجاح القمم العربية في طبيعة المشاركين، لا في بيانات ومواقف وإجراءات تُتَّخذ، فقد تحوّلت تلك القمم مجرّدَ تجمّع رسمي عربي تنظّمه جامعة الدول العربية من دون أيّ مفعول يُذكر، سواء على مستوى الواقع العربي والتحدّيات التي تواجهه سياسياً واقتصادياً، أو حتى على مستوى العلاقات العربية العربية. وتبعاً لتلك المعايير، يمكن القول إن القمّة العربية التي استضافتها بغداد (السبت الماضي) كانت قمّةً فاشلةً، فلولا مشاركة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، والرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي، لتحوّلت قمّة بغداد اجتماعاً على مستوى وزراء الخارجية (أو أقل)، بعد أن أرسلت بعض الدول مندوبيها في الجامعة، في حين أرسلت دول أخرى وزراء دولة، فمَن أفشل القمّة العربية التي كانتْ تعوّل عليها بغداد كثيراً؟ وما علاقة إيران بذلك؟
قبل أيّام قلائلَ من موعد انعقاد القمّة في بغداد، وبينما كان الحديث يدور عن مستوىً عالٍ من المشاركة العربية فيها، خاصّة في الإعلام العراقي، فاجأ قائدُ فيلق القدس الإيراني إسماعيل قاآني الجميعَ بزيارة مُعلَنة إلى العراق، وتلك من حالات نادرة، وهذه المرّة بزيّ مدني، خلافاً لزياراته السرّية التي كان يرتدي فيها زيّاً عسكريّاً، نادراً ما كان يُشاهد في غيره، سواء في العراق أو في إيران. احتفى مستشار الأمن الوطني في العراق قاسم الأعرجي بزيارة قاآني لبغداد، ونشر صور استقباله في حسابه في منصّة أكس، قبل أن يحذفها بعد انتقادات طاولته، منها ما كتبه السيناتور الجمهوري الأميركي جو ويلسون منتقداً الأعرجي.
رتهنت كومة محمّد شيّاع السوداني على حضور عربي كبير وفاعل، يمكن أن يُساهم في عقد قمّة عربية استثنائية
كانت حكومة محمّد شيّاع السوداني تراهن على حضور عربي كبير وفاعل، يمكن أن يُساهم في عقد قمّة عربية استثنائية، تخرج بمقرّرات استثنائية، خاصّةً أنها تُعقَد في ظرفٍ عربي حسّاس ودقيق، مع تواصل الحرب العدوانية التي تشنّها دولة الكيان الإسرائيلي على غزّة وسط مذابح لا تتوقّف، والحملة الإسرائيلية المسعورة على دول أخرى في المنطقة، سواء في سورية أو في لبنان أو اليمن، فضلاً عن المتغيّر الكبير الذي طرأ على المنطقة والمتمثّل بإسقاط نظام بشّار الأسد، ناهيك طبعاً عن اليد الأميركية التي عادت إلى المنطقة بقوة بعد سنوات من جفوة “ديمقراطية” كادتْ تودي بدول الخليج إلى الصين، كما عبّر عن ذلك دونالد ترامب في مقابلته مع “فوكس نيوز”، بعد عودته من زيارته الخليجية الاستثنائية.
ليس من قبيل التكهّن القول إن زيارة قاآني لبغداد كانت مُحبِطةً عربياً، وربّما كانت أحد أسباب الفشل، وإلا لماذا اختار قائد فيلق القدس هذا التوقيت؟ ولماذا، وهو الذي اعتاد أن يدخل العراق متخفّياً، أن تكون زيارته علنية؟ ولماذا لم تُرسِل طهران شخصيةً دبلوماسيةً إذا كان الأمر يتعلّق بمطالب إيرانية معيّنة من القمّة العربية كما ردّد بعضهم؟
تبدو تلك التساؤلات كلّها مشروعةً، وهي مؤشّر غير مريح إلى رغبة إيرانية في إفشال القمّة العربية في بغداد، توازيها حملة تسقيط شنّتها وسائل إعلام ونواب وساسة مقربون من إيران على القمّة العربية، وعلى رئيس الحكومة محمد شياع السوداني. هذه الحملة التي وصلت إلى حدّ التهديد العلني عبر الفضائيات العراقية باعتقال الرئيس السوري أحمد الشرع في حال مشاركته في القمّة، بل تجاوز الأمر إلى التهديد العلني باغتياله، وهو كلام لم يصدر من ناشطين أو صحافيين أو كتّاب رأي، وإنما من نوّاب. ولم يتوقّف الأمر عند هذا، بل تحوّلت وسائل إعلام عراقية (موالية للإطار التنسيقي) منابرَ لمهاجمة القمّة العربية، والأموال التي صرفتها الحكومة، حتى وصل الأمر بنائب سابق إلى اتهام الحكومة بشراء ملاعق ذهب بملايين الدولارات من أجل ضيوف القمّة العربية.
ظهرت تداعيات ذلك في ضعف التمثيل العربي، وهو ما اعترف به الناطق باسم الحكومة العراقية، باسم العوادي، عقب القمّة. قال إن غياب عدد كبير من الزعماء العرب لم يكن مجرّد مصادفة دبلوماسية، بل جاء في ظلّ تساؤلات واستفسارات وجّهتها مؤسّسات عربية حول ما جرى في الشارع العراقي قبيل انعقاد القمّة، خصوصاً التظاهرات والمشاهد المتداولة في مواقع التواصل الاجتماعي.
ليس سرّاً أن السوداني، الذي جاءت به قوى الإطار التنسيقي بعد انتخابات 2021، لم يعد على وفاق مع رفاق الأمس، فهو، من وجهة نظرهم، بات أكثر بعداً عن المحور الإيراني في العراق، وسعى إلى الاستقلالية في مواقفه عن مواقف هذه القوى، وهناك حالة من التوافق الكردي السُّني معه، وهي مؤشّرات خطيرة بالنسبة إلى الإطار التنسيقي، بالإضافة إلى ما قيل عن فضيحة التنصّت التي اتُّهم بها مكتب السوداني قبل عام ونصف العام تقريباً.
الرسالة الإيرانية واضحةً ومؤثّرةً، نحن هنا في بغداد، التي ربما تكون آخر قلاع إيران للدفاع عن نفسها
جاءت الرسالة الإيرانية واضحةً ومؤثّرةً، نحن هنا في بغداد، التي ربما تكون آخر قلاع إيران للدفاع عن نفسها بعد المتغيّرات التي هبّت رياحها على المنطقة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول (2023)، فبعدما خسرت إيران حليفها الأبرز، حزب الله، وبعد اغتيال قادته، ومشروع سحب سلاحه الذي يسير على قدم وساق في لبنان، وبعدما تهاوى عرش حليفها الأسد في سورية، وانتهى إلى غير رجعة، وفي ظلّ الضربات التي توجّه إلى حليف إيران في اليمن، الحوثي… ذلك كلّه جعل من بغداد خياراً مصيرياً لإيران في ظلّ تراجع كبير لمساحة النفوذ التي شغلتها منذ احتلال العراق عام 2003، وفي ظلّ مفاوضات إيرانية أميركية يبدو أنها غير مريحة لطهران.
يقف العراق عند مفترق طرق، فهو إمّا أن يركب قطار التغيير الذي انطلق سريعاً ويبتعد عن إيران ومحورها، أو يبقى واقفاً في محطّته الإيرانية التي ربما لن تكون متوفرةً، حتى للانتظار في مرحلة قريبة. بالتالي، على ساسة العراق اليوم أن يعيدوا ترتيب أوراقهم قبل أن تعصف بها ريح المنطقة ومتغيراتها، وتبعثرها بين المنافي مرّة أخرى، فالتعامل مع تلك المتغيّرات وإن بدا ممكناً اليوم، قد لا يكون كذلك في قابل الأيّام، وقديماً قيل: “واللبيب بالإشارة يفهم”.
المصدر: العربي الجديد