عن استحقاقات قمة بغداد

عمار ديوب

العراق ضعيفٌ إلى الحد الذي لا يستطيع فيه رئيس حكومته الطلب من وزير خارجية إيران الابتعاد عن الصورة الدبلوماسية المخصصة للرؤساء والقادة. كل الوفود القادمة إلى بغداد، باستثناء الوفد الإيراني، يرغبون بعراقٍ أكثر استقلالية، وتمثيلاً لمصالح شعبه، والتخلص من أزمته الاقتصادية والاجتماعية الحادّة. القمة تأتي للوقوف مع العراق الذي سيشهد انسحاباً كاملاً للأميركان في نهاية العام الحالي (2021)، وكذلك تتضمن رسالة إلى إيران بأن تغير من سياساتها الهيمنية على العراق. كلمة وزير خارجيتها، حسين أمير عبد اللهيان لا تبشر بأيّ خيرٍ. ليس غريباً ما فعله هذا الرجل، فهو ممثل حكومةٍ متشدّدة، ومعبرة عن الحرس الثوري، ومعادية أيضاً للشعب الإيراني.

مشكلة العراق الفعلية تكمن في تلك الهيمنة بالضبط، والتي ترى العراق محض محافظةٍ ملحقة بإيران، فتنهبها اقتصادياً وتهمّش نظامها وجيشها واستخباراتها مقارنة بالمليشيات العراقية “الإيرانية”، وتجعل الأرض العراقية ساحةً لتصفية حساباتها مع أميركا، كما حال وظيفة المليشيات التابعة لها في سورية ولبنان واليمن. الضعف الشديد للنظام العراقي يُقيّد يديه في كل الاتجاهات، فهو لا يستطيع محاربة الفساد، فأبرز زعمائه تابعون لإيران، ولا يستطيع ملاحقة الذين يَقتلون شباب المتظاهرين لأنهم مدعومون إيرانياً، ولا يستطيع إنشاء علاقة متوازنة مع الأميركان، كي لا يظهروا وكأنّهم يفرطون بـ”سيادة” العراق.

الضعف العراقي هذا، والمردود إلى التدخل الإيراني، ترفضه تياراتٌ سياسيةٌ كثيرة، وهناك أكثرية عراقية، كما تبدّى في المظاهرات تتبنّى الموقف ذاته. يضاف إليه أن دول القمة وغيرها أيضاً غير راغبةٍ باستمراريته. العراق المقيّد يبدي محاولات جادّة لتغيير موقعه الإقليمي الهشّ، وإيقاف التدهور العربي، والذي تضاعف منذ احتلال الأميركان له، وسيطرة إيران اللاحقة عليه. اجتمعت في قمة بغداد أطراف عربية لديها خلافات سابقة، كالرئيس المصري وأمير قطر، وهناك لقاءات بين وفود إيرانية وسعودية سابقة للقمة. وفي الإقليم، هناك تقارب إماراتي تركي، وتركي مصري. وهذا يعني أن العراق يحاول استعادة دوره العربي. على الرغم من ذلك، لم يستطع النظام الاقتراب من شعارات الانتفاضة العراقية، التي تخفّ وتعود بسبب وحشية القتل “إيران برّه برّه”. النظام الحالي ليس مؤهلاً لدورٍ عربي أكبر، وأكثر قومية ووطنيةً في آن واحد.

الاستحقاقات التي تقف أمام القمم العربية، أو القمة الأخيرة، تتعلق أولاً بإبعاد التدخل الإقليمي الواسع في الدواخل العربية، وكذلك إيقاف التطبيع المجاني بين إسرائيل وبعض الدول العربية، ويبدو أن التيار الأخير يزداد بسبب الضعف العربي، والتخوّف العربي من تركيا وإيران خصوصا، الدولتين الطامعتين بشدّة في سورية والعراق، ولا تخفيان رغبة واسعة في التمدّد أكثر فأكثر في الدول العربية، وتغيير بناها الاجتماعية، أليس هذا ما تفعله إيران، وكذلك تقوم بالأمر ذاته تركيا، وإنْ بشكلٍ “ألطف” وأخفّ حدّة.

ما زالت محاولات النظام العراقي الانفتاح عل العالم العربي هشّة وضعيفة، ويمكن أن تصل من جديد قوى عراقية هواها إيراني مائة بالمائة. الانتفاضة العراقية عنصر رئيسي في إيصال مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الحكومة وفي محاولاته تلك، التي بدورها تعبير عن رغبة شعبية في تفعيل دور العراق عربياً. ظهر دور أردني أخيرا في الشأن السوري، وبتنسيق كامل مع أميركا أولاً وروسيا ثانياً. وهناك الحديث عن خط غاز مصري، يمرّ بالأردن وسورية ويصل إلى لبنان. وعلى الرغم من ذلك، لم يكن دوراً من أجل حل حقيقي لمشكلات لبنان أو سورية؛ حيث تفعيل الخط جاء بأمرٍ أميركي، ومن أجل تحجيم الدور الإيراني في حل مشكلات لبنان، ولا سيما بعد حديث أمين حزب الله في لبنان، حسن نصرالله، عن بواخر النفط القادمة من إيران، ومن دون مشاورة مع النظام اللبناني، الذي يكاد يلفظ أنفاسه، بعد تعطيلٍ مستمرٍ لتشكيل الحكومة، وإصرار الرئيس عون على الثلث المعطل ودور أكبر لكتلة صهره جبران باسيل.

مشكلة العرب هنا، فليس من رؤيةٍ عربيةٍ لقضاياها، والأنظمة العربية مشغولة بتأبيد ذاتها الفاشلة، وبكيفية سيطرتها على هذه الدولة أو تلك، وضعفها وحده ما يدفع بعضها إلى التحالف مع إسرائيل أو إيران أو تركيا. ضعف الدول العربية لم يتم تجاوزه عبر تمتين العلاقات بين مصر وقطر أو الأخيرة والسعودية والإمارات، والآن ظهرت لنا مشكلة الخلاف المغربي الجزائري.

لا يتقصّد كاتب هذا المقال تهميش أهمية قمة “التعاون والشراكة” في بغداد، ولكن أيضاً لا يمكن إعطاؤها أهمية حقيقية، وقد لعبت كل من إيران وفرنسا دوراً أكبر فيها. إذا حاولنا التفكير بما بعد القمة! فماذا ستكون الحصيلة؟ لا شيء جادّا على الإطلاق. هناك مقولة سادت، مفادها بأن العالم العربي يتعرّض لتغيير كبير فيه بعد احتلال أميركا العراق، وبعد زلزل الثورات العربية. القمة الأخيرة لا تأتي بجديدٍ يوقف التدهور العربي، ولا التدخل الإقليمي، بل وهناك تخوّف شديد من الانسحاب الأميركي من العراق، والهيمنة المطلقة لإيران على هذا البلد.

لن نتكلم عن سوء السياسات الأميركية في منطقتنا؛ فالإدارة الأميركية تضع سياسات عالمية وتتحرّك وفقها، وهي تتحدّث عن إمكانية التدخل الجوي في حال الضرورة. في حالة العراق، لم تفعل شيئاً للتدخل الإيراني في هذا البلد، بل وتمّ ذلك بإشراف أميركي، حيث لا يمكن تفسير التمدّد الإقليمي الإيراني بعد سيطرة أميركا على أفغانستان والعراق والعالم العربي إلّا عبر غطاء تلك السيطرة. هل تتمكّن القمة ودولها أن تكون قادرة على انتشال العراق من هيمنة إيران؟ أبداً. وعدا ذلك، هناك تجاهل مستمر ومتعمد لأهداف الثورات العربية. وأخيرا، شهدنا ردّة تونسية عن ديموقراطية هامشية في هذا البلد. السودان لا يمكن أن يكون نموذجاً، والجزائر أيضاً ما زال نظامها يتمسّك بدورٍ مركزي للجيش في إدارته، وتهميش انتفاضات شعبه المتكرّرة. كانت الثورات العربية لحظة تاريخية للأنظمة للتصالح مع الشعوب، والسير نحو تنميةٍ مستدامة، وإدخال الشعوب بالمجال العام. كانت لحظة القوة للعرب، ومنافسة الدول المحيطة، وضمناً انتفاضتي العراق ولبنان، ولكن ذلك كله تمّ تهميشه، وتصفيته، وأصبحت الأنظمة بدورها عاجزة، حيث تقوى الدولة، أيّة دولة، حينما يتدخل الشعب في المجال العام، وممارسة دور الرقابة على مؤسّسات الدولة. وبالتالي، يكون بمقدورها مواجهة الدول الإقليمية، أو العظمى.

بعد أشهرٍ، وفي حال ظلّت أميركا وروسيا تعتمدان على سياسات التفتيت للمنطقة وتركها تغرق في حروبٍ أهلية، لن يكون لقمة بغداد قيمة تذكر؛ فمشكلة العراق في أزمة نظامه السياسي أولاً، وسيزداد تدخل كل من تركيا وإيران وإسرائيل في عالمنا العربي. فرنسا ليست جديرة بالاحترام، وتدخلها في أزمة لبنان كان لصالح حزب الله، وعبر قمّة بغداد لصالح إيران، ودورها في الموضوع النووي يصبّ في هذا الاتجاه، ولحضور الرئيس ماكرون القمة بعد انتخابي داخلي. وبالتأكيد ليست بديلاً عن الدور الأميركي في منطقتنا.

هل ستخالف النتائج المستقبلية لقمة بغداد التحليل أعلاه؟ لا أظن.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى