من دمشق إلى تل أبيب.. من سرّب أرشيف إيلي كوهين؟

ماهر حسن شاويش

في الذكرى الستين لإعدامه، أعلن الموساد الإسرائيلي عن عملية “سرية ومعقّدة” أسفرت عن استعادة أرشيف الجاسوس إيلي كوهين من سوريا إلى إسرائيل، بالتعاون مع جهاز استخبارات “استراتيجي شريك” لم يُكشف عن هويته.

العملية شملت أكثر من 2,500 مستند، صورة، وأغراضاً شخصية من بينها وصيته الأصلية، مفاتيح شقته بدمشق، جوازات سفر مزورة، وصور مع قيادات سورية بارزة في تلك الحقبة.

لكن اللافت في هذا الإعلان لم يكن حجمه، بل توقيته: جاء بعد سقوط نظام بشار الأسد، وفي ظل صعود إدارة الرئيس أحمد الشرع، الذي تبنّى نهجًا سياسيًا مختلفًا، ينفتح على الغرب والخليج، ويُبقي موقفه من إسرائيل وفلسطين في دائرة غموض مقلقة.

توقيت يكشف أكثر مما يخفي؟

بخلاف عملية استعادة جثة الجندي زخاريا باومل من مخيم اليرموك عام 2019 – والتي تمّت بتنسيق مع روسيا والنظام السابق – لم تعلن إسرائيل متى نُفّذت عملية كوهين، ولا كيف خرج الأرشيف من سوريا، ولا هوية الشريك الذي سهل نقله.

لا يُستبعد أن يكون توقيت الإعلان الإسرائيلي عن استعادة أرشيف كوهين جزءًا من أجندة ضغط ناعمة على دمشق الجديدة، التي تنتمي لمرجعية وطنية وإسلامية يصعب التفاهم معها وفق المعايير الإسرائيلية التقليدية.

ومع تعثر محاولات التأثير عليها عسكريًا عبر الجنوب السوري، أو عبر الاستهدافات المتكررة لمواقع قريبة من القرار السيادي، قد ترى إسرائيل في تسريب هذه الملفات وسيلة لإرباك الإدارة الجديدة داخليًا، وإحراجها أمام جمهورها الطبيعي، خصوصًا في ظل صمتها المتكرر إزاء ملفات فلسطين وإسرائيل.

هل سياسة الغموض هذه تجاه فلسطين وإسرائيل مقصودة؟ أم أنها انعكاس لحالة انتقال سياسي لم تكتمل بعد؟

غموض لا يقتصر على كوهين

وفي السياق ذاته، كانت إسرائيل قد أعلنت أيضًا عن استعادة أجزاء من رفات الجندي تسفي فيلدمان، الذي قُتل في معركة السلطان يعقوب عام 1982. ورغم أن تفاصيل العملية لم تُكشف بالكامل، إلا أن تسريبات متعددة أشارت إلى عدة سيناريوهات ناقشناها سابقًا في مقال بعنوان “هل نحن أمام اتفاق أم اختراق؟”، دون أن تُنسب العملية حينها لأي جهة، سواء من النظام السوري السابق أو الحالي.

سياسة “الصمت المتكرر” لا تقتصر على قضية كوهين

 في الأسابيع الأخيرة، شهدت سوريا الجديدة:

– توقيف طلال ناجي، الأمين العام للجبهة الشعبية – القيادة العامة.

– اعتقال قيادات من حركة الجهاد الإسلامي.

– غياب أي موقف رسمي من هذه الإجراءات، أو من قضايا فلسطين عمومًا حتى في خطاب الرئيس أحمد الشرع الأخير.

كل ذلك يجري وسط تحوّل سياسي تقوده إدارة الرئيس الشرع، عنوانه المعلن: “الانفتاح الإقليمي والدولي”. لكن هذا الانفتاح لم تُحدد حدوده بعد، ولا اتجاهاته الفعلية.

والسؤال الذي لا يجد جوابًا واضحًا هو:

هل سياسة الغموض هذه تجاه فلسطين وإسرائيل مقصودة؟ أم أنها انعكاس لحالة انتقال سياسي لم تكتمل بعد؟

وفي المقابل، لا يمكن استبعاد احتمال أن يكون الغموض الذي تتبناه الإدارة السورية الجديدة في التعامل مع هذه الملفات الحساسة تكتيكًا مقصودًا، وربما محمودًا في بعض مراحله. فالدولة الخارجة من حقبة أمنية خانقة، والغارقة في ترتيبات إقليمية معقدة، قد تختار الصمت المؤقت كوسيلة لتجنّب الاستقطاب، أو لضبط إيقاع خطواتها السياسية دون انكشاف مبكر.

الغموض المستمر تجاه ملف حساس مثل العلاقة مع إسرائيل – واسترجاع أرشيف تجسس من قلب دمشق – قد يُضعف ثقة الشارع ويغذّي الشكوك.

بين حق التساؤل وواجب الشفافية

لا يقصد هذا المقال الاتهام المباشر لأي جهة، ولا يبتغي التبرئة في ذات الوقت، ولا يدّعي أيضًا امتلاك الحقيقة بل ينشدها.

ولذلك في لحظة كهذه، من المشروع أن يتساءل السوريون:

– من سهّل خروج أرشيف إيلي كوهين من دمشق؟

– ولماذا لا توضح الإدارة الجديدة موقفها من ذلك؟

– وهل الصمت المتكرر سياسة متعمدة أم غياب موقف؟

– وماذا تعني التحركات ضد فصائل فلسطينية داخل سوريا في هذا التوقيت بالذات؟

– ولماذا يغيب ذكر فلسطين – كقضية مركزية – عن خطاب رسمي للرئيس أحمد الشرع، في توقيت يُعاد فيه تشكيل المشهد الفلسطيني برمّته، من غزة إلى الضفة، ومن طهران إلى أبو ظبي؟

ختامًا.. في السياسة لا يوجد فراغ بلا ثمن

قد تكون السياسة المتّبعة حاليًا من باب الحذر، أو نتيجة ظروف انتقالية معقدة، أو تعبيرًا عن ترتيب جديد للعلاقات الإقليمية.

لكن الغموض المستمر تجاه ملف حساس مثل العلاقة مع إسرائيل – واسترجاع أرشيف تجسس من قلب دمشق – قد يُضعف ثقة الشارع ويغذّي الشكوك.

في السياسة، الصمت موقف، وإن لم يكن تصريحًا.

وفي ذاكرة الدول، كل ورقة تُهرّب، وكل ملف يُسلَّم، هو جزء من تاريخ قد لا يُكتب من جديد… بل يُخشى أن يُباع أو يُقايض عليه، في صفقات تُصاغ خلف الأبواب الموصدة، وتُكشف لاحقًا على هيئة “إنجازات استخباراتية” من تل أبيب.

بكلمة: تكتيك الغموض قد يكون مفيدًا ومحمودًا، ولكنه أيضًا قد يكون محفوفًا بالخطر .

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى