غزة وفرنسا: الصامتون والكاذبون وما بينهما

سلام الكواكبي

بعد صمت مريب وشريك طال منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبعد سقوط عشرات الآلاف من الضحايا من المدنيين في قطاع غزة، والذي تم تدميره بشكل كامل، وبعد مقتل ما يقارب الألف مدني في الضفة الغربية، بدأ يُسمع صوت خافت لبعض الفنانين والمثقفين ورجال الأعلام في أوروبا عموماً، وفي فرنسا خصوصاً، يعبرون من خلاله عن عجزهم عن الاستمرار في دفن رؤوسهم في الرمال المثخنة بالدماء الفلسطينية. فبدأت بعض الإدانات الخجولة، ووصلت أحياناً للتعبير عن شيء من الندم نتيجة صمت طال، كان واضحاً أنه شريك غير مباشر في الجريمة، أو أنه في أحسن الأحوال يعبر عن درجة مرتفعة من الخوف في قول الحق. مع ذلك، ومن الضروري الإشارة إلى وجود أقلية مضطهدة من العاملين في الشأن العام، عبرت عن ألمها الحقيقي أمام معاناة المدنيين الفلسطينيين. وسرعان ما جرى العمل على عزلها مهنياً وإعلامياً، وحتى اجتماعياً، بتهم شتى تتراوح بين الترويج للإرهاب وصولاً إلى معاداة السامية.

مثل هؤلاء الأفراد النادرون الذين ينتمون في غالبيتهم إلى اليسار غير المدجن بعد أو إلى أقصاه، اختاروا عدم الانضمام إلى جوقة المبررين للفظائع التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد المدنيين الفلسطينيين. وقد عبّروا بشجاعة عن مواقفهم منذ اليوم الأول للمجزرة الدموية التي يشرف عليها وينفذها أكثر جيوش المنطقة ـ وحتى العالم ـ “التزاماً بالأخلاق وبالقوانين الدولية الإنسانية”، كما يدعي مجرمو الحرب قولاً وفعلاً. هذا الوصف المشوه الأخير ما فتئت تكرره على مسامعنا مجمل وسائل الإعلام الغربية، مع استثناءات قليلة، حيث تقوم باجتراره في كل مناسبة لتتجاوز قدرة الإعلام الإسرائيلي ذاته، أخلاقياً ومهنياً، على الكذب والتدليس.

الأصوات الخافتة المسموعة مؤخراً ذات دلالات مهمة. فبعد أن جند اللوبي الإسرائيلي في فرنسا إعلاميين كثراً ورجال ثقافة ومؤثرين، وذلك ليس فقط للدفاع عن جيش الإسرائيلي واعتبار أن ما يقوم به من مجازر “غير متعمدة”، يهدف في النهاية إلى القضاء على إرهاب جماعات متشددة، وإنما أيضاً لاعتبار بأن الضحايا مسؤولين عن موتهم كونهم الحاضنة الاجتماعية للإرهابيين. تيمناً بما ذكرته جولدا مائير يوماً بأن “الشيء الوحيد الذي لا أستطيع أن أغفره لهم هو أنهم أجبرونا على قتل أبنائهم”.

وقد تم تطوير خطاب لا إنساني مرعب صار من السهل سماعه يومياً في وسائل الإعلام الأساسية وفي المنابر المتنوعة. حيث تم من خلال هذه الممارسة الخبيثة، بعث الشك لدى من يرى من عامة الناس أن ما يجري في الأراضي المحتلة ما هو إلا جريمة ضد الإنسانية وجريمة حرب، وصولاً لتحقيق الإبادة الجماعية لشعب بكامله. وفي سبيل تحقيق ذلك، أنشأت جمعيات مدنية متنوعة الأسماء والعناوين تعنى بمراقبة الخطاب الإعلامي والأكاديمي، للبحث فيه عما يمكن أن تعتبره تشكيكاً في الرواية المفروضة والمناسبة لها. ولتعتبر بأن الخطاب غير الملتزم بمعاييرها ودفتر شروطها، الذي يجرؤ على عدم تحميل مسؤولية العنف الدموي السائد إلى الضحايا أنفسهم، ما هو إلا شكل من أشكال مناهضة السامية أو الترويج للإرهاب.

ومن خلال هذا العمل الدؤوب الممول جيداً ومن دون انقطاع، تم إرسال العشرات من الأكاديميين والناشطين المدنيين إلى المحاكم لمواجهة مثل هذه التهم. ومن المؤسف إنه في دولة القانون يقبل القضاء المستقل النظر في هذه القضايا، حيث لم يسجل قاض حتى اليوم موقفاً قانونياً يعتبر بأنها مجرد اتهامات فارغة ويرفض النظر في القضية. ولذا، فقد ساد جو من الرهاب في الفضاء العام الفرنسي، مما دفع عديد من الفاعلين للانزواء واختيار الصمت. في المقابل، نادراً ما تم توجيه الاتهام بالتحريض على الكراهية أمام القضاء الفرنسي لمن يدعو جهاراً نهاراً إلى قتل الفلسطينيين مباشرة، أو من خلال تجويعهم ومنع الإغاثة والكهرباء وماء الشرب عنهم. ووصل الأمر بهم لأن يدافعوا باستماته عن أعمال الجيش الإسرائيلي، معتبرينها “جراحية” تتحاشى إصابة المدنيين. وعندما يتم مواجهتهم بالوقائع والوثائق، فإذ بهم يحمّلون الفلسطينيين مسؤولية موتهم، بالقول إن كل من في غزة هو حماس بشكل مباشر أو غير مباشر، وبالتالي من المشروع -حسب عرفهم “الحضاري”- القضاء عليهم.

إن ما يكتبه صحافيون إسرائيليون، كجدعون ليفي أو مائيرا هاس، المعاديان بوضوح وشجاعة، لوحشية الاحتلال والمنددان بها، لن يجد مكاناً لنشره في الصحافة الغربية عموماً والفرنسية خصوصاً. نجد إذن أن الإعلام الفرنسي هو أكثر تطرفاً في محاباة إسرائيل من بعض الصحافة الإسرائيلية ذاتها. وهذا الأمر يحتاج إلى دراسات معمقة تدخل في غياهب الذاكرة الفرنسية الاستعمارية، وتعبر من خلالها إلى حقبة الحرب العالمية الثانية، ومسؤولية الحكومة الفرنسية حينذاك المتعاونة مع النازية الألمانية، في العمل على ترحيل اليهود إلى معسكرات الموت، وصولاً إلى مدى تأثير اللوبي الصهيوني في مجمل مفاصل الحياة اليومية في المشهد المحلي.

صدور إدانات كنت مكتومة، مقبول على مضض، أما من يدلون اليوم بمواقف مختلفة عن الأمس، معتذرين نسبياً أو مبررين قولهم المنافي للحقائق بعدم معرفتهم الكاملة بما يحصل، فقد تأخرواً كثيراً ولن يتمكنوا من شراء ضمائرهم، خصوصاً منهم من تصدى بعنف ووقاحة في بداية المقتلة للحقائق، دافعاً عن جيش الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية عن أية مجزرة موصوفة وقعت، أو عن أي مخطط للتطهير العرقي، أو عن أي رغبة لإعادة احتلال قطاع غزة والضفة الغربية.

المصدر: المدن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى