بدون العدالة الانتقالية الشاملة لا يمكن تجاوز عوامل الحقد والكراهية

محمد علي صايغ

 العدالة الانتقالية غالبا ما تنشأ في إطار عملية تحول أو انتقال، إما من الحرب الى السلم، وإما من حكم تسلطي إلى حكم ديمقراطي , أو عقب نزاعات مسلحة دولية أو اقليمية أو محلية , وكمعالجة لآثار ما تخلفه تلك الحروب من تجاوزات ومن انتهاكات الأنظمة على حقوق الإنسان وكرامته .

ولا شك بأن تطبيق العدالة الانتقالية وفق تجارب الدول لا يتم إلا بوجود هيئة عليا خاصة للعدالة الانتقالية تستند على المعايير التالية :

١- أن تستند إلى نص دستوري يعطيها الاستقلالية وصلاحيات واسعة في المتابعة والتحقيق والمحاكمة وتشكيل لجان لمتابعة مرتكبي الجرائم وخاصة ممن تلوثت أيديهم بدماء السوريين أو ممن كانوا على رأس عمليات الفساد الكبرى في الدولة

٢- أن تستند إلى قواعد حقوق الإنسان بالاستناد إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وبروتوكولاته وإلى القوانين الدولية بما يخص الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب .

٣- إشراك منظمات المجتمع المدني الوطنية في عمليات الرصد والتقصي عن الجرائم ، والاستفادة من المنظمات الدولية التي رصدت الانتهاكات على مدار الأزمة السورية

٤- شمولية البحث والتحقيق والمحاكمة لكل مرتكبي الجرائم مهما كانت صفتهم وموقعهم سواء في الماضي أم في الحاضر ، على أن لا تؤسس العدالة الانتقالية على أساس عدالة انتقامية ، أو على أساس عدالة انتقائية تتناول جهة محددة أو شريحة معينة ، إذ بدون أن تشمل العدالة جميع مرتكبي الجرائم فإن عمليات الثأر والانتقام ستبقى مستمرة لعدم انصاف جميع الضحايا .

٥- شفافية وعلنية كافة الإجراءات القضائية وغير القضائية بما فيها الأحكام التي يجب أن تتصف بالنزاهة والمصداقية تجاه جميع مرتكبي الجرائم .

 وحتى تستطيع هيئة العدالة الانتقالية إنجاز مهماتها لا بد أن تتولد القناعة العامة بمصداقية أعضائها ونزاهتهم ، وأن تكون الهيئة تعبير عن ثقة الشعب السوري بها وتطلعهم إلى عدالتها وإنصافها في أحكامها ،وهذا يفترض إعادة النظر بمؤتمر الحوار الوطني العام الذي انعقد بدمشق ، والإعلان عن مؤتمر وطني شامل يرتكز إلى التوافق الوطني حول حقيقة النزاع وٱليات الانتقال السياسي ومرتكزاته عبر المرحلة الانتقالية ، وٱليات إصلاح بنية الدولة ومرجعياتها ، وتحديد الرؤية الواقعية للعدالة الانتقالية تجنباً لكل ما يغذي عوامل الكراهية والحقد ، ومنعاً لحدوث جرائم جديدة في المستقبل ، على أنه يجب أن يدرك جميع السوريين سلطةً ومعارضة ومنظمات مجتمع مدني أن تأسيس مستقبل سورية يتعلق بقدرتهم على تجاوز الماضي ، ودخول الجميع في شراكة وطنية حقيقية تبعد شبح الماضي ولا تنساه ، وتجري التسويات والمصالحات حفاظاً على وحدة المجتمع بدون إسقاط الحساب عن من تلوثت أيهم بالدم السوري وخاصة من أصحاب القرار أو كبار الفاسدين أو ممن انغمسوا بالتعذيب بدوافع عرقية أو طائفية .. وفوق ذلك التأكيد على الذاكرة الجمعية للجرائم والانتهاكات التي حصلت والتي ينبغي توثيقها وأرشفتها وتخليد ذكرى ضحاياها

 ومن هنا فإن تطبيق العدالة الانتقالية في سورية يجب الأخذ بعين الاعتبار المحددات التالية :

1- إن تطبيق العدالة الانتقالية يجب ان يأخذ دلالات ونتائج  ما آلت إليه الأوضاع في سورية , إذ أن القصاص من جميع مرتكبي الجرائم والفظاعات من أطرف النزاع أمر غير واقعي نظرا لضخامة عدد المرتكبين من جهة , ولأن هؤلاء الأشخاص وكياناتهم الظاهرة منها أو الخفية ستعمل على إفشال تطبيق العدالة الانتقالية وتقف عقبة كأداء في نسف جهود قيامها أو عرقلتها, وقد يتحول بعضهم بدافع الخوف من أن يطالهم القصاص العادل الى قنابل موقوته يعمدون إلى تفجيرها لإعادة إنتاج الصراع بأشكال متعددة مرة ثانية ، وبالتالي لا بد من قواعد ناظمة واحدة معتمدة تطبق على مرتكبي جميع الجرائم لمنع أية نتائج كارثية قد لا يمكن التنبؤ بمخاطرها وآثارها ومآلاتها .

2- أولوية المصالحة الوطنية في تطبيق العدالة الانتقالية, فسنوات الحرب الطويلة خلفت جروحاً عميقة في وجدان المجتمع السوري , وأحدثت شروخاً في النسيج الوطني , ووضعت الأفراد والكيانات في مواجهة عدائية تصادمية . فتنامت الأحقاد ودوافع الانتقام والثأر , مما يقتضي أن ينبثق عن هيئة العدالة الانتقالية المهنية هيئة مستقلة للإنصاف والمصالحة وجبر الضرر تضم ممثلين عن جميع القطاعات المجتمعية ( قضائية , قانونية , أكاديمية , إعلامية , أمنية وعسكرية , صحية , مجتمع مدني .. ) , والسعي لإعادة بناء الثقة المجتمعية ضمن الهوية الوطنية الجامعة .

3- إن تطبيق العدالة الانتقالية وإن كان  يحتاج لسنوات يتم عبرها بناء مؤسسات العدالة الانتقالية المهنية , إلا أن الخطوة الأولى الضرورية المباشرة فوراً يجب أن تتجه إلى عملية إصلاح قضائي شاملة بما يضمن الكفاءة والنزاهة والعدل ، وإنشاء لجان لتقصي الحقائق بشأن الانتهاكات وكشفها للرأي العام , وخاصة الجرائم أو المجازر الجماعية التي تعتبر جرائم ضد الانسانية وإحالة مرتكبي تلك الانتهاكات إلى الهيئة القضائية الجنائية , ورفع الدعاوى بمواجهة المتورطين بالجرائم المختلفة وجرائم الحرب من الأجانب ومن كافة الجنسيات بطلب محاكمتهم أمام المحاكم الجنائية الدولية . وهذا يتطلب إشراك الضحايا والاستماع لهم , وإنشاء مكتب خاص لتوثيق كافة مراحل الانتهاكات , وإحداث صندوق التعويض وجبر ضرر المتضررين من ذوي الضحايا والجرحى بوجه خاص .

4-إعادة تشكيل المؤسسات الأمنية والعسكرية , وضمان خضوعها للسلطة المدنية في إطار الدولة المدنية , بما يضمن احترام سيادة القانون , وحقوق الانسان , والحريات العامة , وعدم التمييز , والمساواة في الحقوق على أساس المواطنة المتساوية والعيش المشترك لجميع تكوينات الشعب السوري , وإطلاق العمل الحزبي وإغلاق قاعدة الحظر السياسي بقانون ناظم , وتوسيع دور الجمعيات والمنظمات المدنية ومؤسساتها وإخراجها من تبعيتها للأجهزة الأمنية والحكومية نظراً لأهمية الدور الذي يمكن ان تلعبه هذه المنظمات في رصد الانتهاكات ومتابعتها وتزويد لجان تقصي الحقائق بالمعلومات والبيانات الداعمة لعملها .

5- التأكيد على وجود ترابط بين العدالة الانتقالية والتحول إلى الدولة الديمقراطية , وهذا يتطلب وجود إرادة سياسية للانتقال السياسي مقدمة لابد منها لتطبيق العدالة الانتقالية , بما يسمح بتعزيز دولة المؤسسات , وترسيخ سيادة القانون , وتجاوز سلبيات الماضي وإكراهاته , ومعالجة آثار الحرب ومخلفاتها وانعكاسها على التنوع المجتمعي القومي والديني , والاحتكام الى العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص بين الجميع بعيدا عن المحسوبيات والامتيازات الخاصة , وفي جو من الحريات الدستورية والقانونية .

على أن تطبيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يكتنفها  العديد من المعوقات ينبغي العمل على تجاوزها . وأهم هذه المعوقات :

1- عدم وجود إرادة دولية لوضع حد للنزاع السوري بعد تدويله ، وخاصة في حال جود أطراف دولية تعمل على تصعيد النزاعات الداخلية وتهديد الاستقرار والسلم الأهلي ، كما لابد من انتقال سياسي آمن وفق المرجعيات الدولية يوفر الأرضية الملائمة لتطبيق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية , ويوفر الإرادة الوطنية السياسية يتحدد من خلالها المرجعيات اللازمة التي ستستند إليها آليات العدالة والمصالحة المجتمعية .

2- غياب وحدة السلطة ووحدة القرار السياسي وانعدام الثقة بين أطراف السلطة وخاصة بين الأطراف السياسية والأمنية والعسكرية عبر أشخاصهم وكياناتهم بما قد يؤدي الى نسف جهود العدالة الانتقالية إذا كان عدد منهم له ضلع بالانتهاكات .

3- إشكالية الإعلان الدستوري الحالي في طبيعة السلطات وتموضعها ، وعدم تمثيله بشكل واقعي للشعب السورية ومكوناته وقواه المدنية والسياسية ، مما يشكل عقبة في أية مصالحة وطنية تبقي الصراعات الداخلية خفية ، تنتظر اللحظة المناسبة لانفجارها ، وتبقي حالة الاستقرار وهمية لا تنتج مصالحة حقيقية ولا سلم أهلي مستدام ..

4- عدم وجود مرجعية قانونية موثوقة غير مسيسة التي ستحكم عمل المحاكم ولجان الحقيقة , إضافة إلى فساد الجهاز القضائي وترهله .

5- ضعف وهشاشة منظمات المجتمع المدني بما في ذلك الأحزاب السياسية  التي تعتبر رافد مهم لهيئة العدالة الانتقالية ، وتأخر صدور قانون عصري للمنظمات المدنية والأحزاب السياسية الذي يمنحها حرية الحركة والدور ، بما تشكل رافعة مهمة للتحول من المجتمع العرقي والمذهبي والطائفي والعشائري إلى المجتمع السياسي الذي يتنافس على برامج سياسية تخدم المجتمع وتعزز تطوره ونهضته .

6- الفوضى في مؤسسات الدولة ، وأخطرها الفوضى المترافقة مع العنف المنفلت وما يرافقه من حالات الثأر والانتقام كأحد العوامل التي تعيق تطبيق العدالة الانتقالية

 7- الفساد المعمم في بنية الدولة والمجتمع الذي أباح النهب العام العشوائي والمنظم سابقاً ، سيبقى عثرة كأداء في وجه أي عملية محاسبة أو مصالحة , وضد أي انتقال سياسي سلس يعمل على ترسيخ مبادئ العدالة وإرساء نظام قانوني جديد يساعد في تحقيق العدالة الانتقالية  .

ولا شك فإن المرسوم الرئاسي للعدالة الانتقالية الذي صدر بتاريخ ١٧/ ٥ / ٢٠٢٥ خطوة ضرورية غير مكتملة الأركان ، ويفتقد المرسوم إلى شمولية المحاكمة والمحاسبة لجميع من ارتكبوا الجرائم الجسيمة ضد الشعب السوري ، ذلك لإن اقتصار النص على محاسبة المسؤولين من أركان النظام السابق دون محاسبة الٱخرين من المجموعات والتنظيمات ( داعش وأخواتها ) ، وبعض الفصائل الأخرى التي ارتكبت جرائم يطالها القانون الوطني والدولي ، وبعضها جرائم جماعية يعاقب عليها القانون الإنساني الدولي أيضاً ولا تخضع للتقادم مهما طال الزمن ، فإن هذا التوجه في المرسوم الرئاسي نحو جهة واحدة للمحاسبة – وهي بالطبع الأكثر ارتكاباً للفظاعات الجرمية – يجعل المرسوم انتقائياً، ويفتح الباب أمام هروب المرتكبين الٱخرين من ميزان العدالة ، الذي يجب أن يشمل جميع من أوغل في الدم السوري، وإرسال رسائل الاطمئنان إلى ذوي الضحايا بأن العدالة تشمل الجميع دون استثناء، وأن دماء الضحايا لن يذهب هباء ، وأن تطبيق سيادة القانون على الجميع فوق كل اعتبار .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى