
تثير عملية استعادة رفات الجندي الإسرائيلي تسيفي فيلدمان من سوريا، بعد أكثر من أربعة عقود على مقتله في معركة السلطان يعقوب، جملة من التساؤلات تتجاوز البُعد التقليدي خاصة في مثل هذه القضايا.
ففي توقيت سياسي حساس، وفي ظل صعود إدارة سورية جديدة تَعِد بإعادة رسم ملامح العلاقة مع الإقليم والعالم، يصبح هذا الحدث نقطة اختبار لا يمكن تجاهلها، هل ما جرى اختراق أمني جديد يُظهِر هشاشة في بنية الدولة؟ أم أنه مؤشر على مسار تفاهمات غير معلنة تمضي بخطى حذرة نحو إعادة التموضع الإقليمي؟
بين هذا وذاك، تبقى القراءة الهادئة ضرورية، لأن الحدث قد يكشف الكثير عمّا هو آت.
أمس أعلن رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو لعائلة الجندي الإسرائيلي تسفي فيلدمان، الذي قُتل في معركة السلطان يعقوب في لبنان عام 1982، أنه تم استعادة رفاته من سوريا عبر عملية خاصة لجهاز الموساد، بحسب ما أوردت إذاعة جيش الاحتلال. وبينما تؤكد القناة 15 الإسرائيلية أن الجثة تمت استعادتها منذ مدة، فإن الإعلان الرسمي جاء بعد انتهاء التحقق من الهوية. هذا الحدث يثير تساؤلات كبرى حول طبيعة العملية، والجهة المسؤولة عن تسهيلها، ودلالاتها على سلوك الإدارة السورية الجديدة.
استعادة الرفات لم تكن عملية معزولة أو تلقائية، بل جرت ضمن سياق سياسي–أمني معقد والإدارة السورية الجديدة، سواء أكانت متورطة مباشرة أو لا، مسؤولة عن إدارة المرحلة الجديدة من السيادة السورية.
السيناريوهات المطروحة
1. السيناريو المرتبط بالبعثة القطرية الأميركية:
تفيد رواية بأن النظام السوري الجديد سلّم إلى واشنطن 12 جثة يُعتقد أن إحداها تعود للصحفي الأميركي المختفي أوستن تيس. وخلال تحليل الجثث، تبين أن إحداها تعود لتسفي فيلدمان، فسلمته الولايات المتحدة لإسرائيل.
2. سيناريو تعاون مباشر مع الموساد عبر التحقيق مع طلال ناجي:
تفيد مصادر بأن الموساد حصل على معلومات من الأمين العام للجبهة الشعبية – القيادة العامة، طلال ناجي، أدت إلى تحديد مكان رفات الجندي. ويُربط هذا السيناريو بتوقيف طلال ناجي في الثالث من أيار/مايو الجاري.
3. سيناريو دور لقوات سوريا الديمقراطية أو الدروز:
تقول بعض الروايات بأن وحدات من قسد أو مجموعات درزية شاركت في تحديد مكان الرفات أو تسهيل نقلها عبر وسطاء دوليين.
4. سيناريو تعاون من فلول النظام السابق دون علم الإدارة الجديدة:
يرجّح هذا السيناريو أن شخصيات أمنية من النظام السابق تعاونت مع الموساد بعيدًا عن علم أو إشراف الإدارة السورية الجديدة.
5. سيناريو اتفاق غير مباشر بين الإدارة السورية الجديدة وإسرائيل برعاية إماراتية:
يرى البعض أن العملية جزء من تفاهم غير مباشر بدأ بعد إعلان الإدارة السورية الجديدة عن انطلاق مفاوضات عبر وساطة إماراتية، وقد تضمن هذا الاتفاق بندًا يتعلق بتسليم رفات الجندي الإسرائيلي كبادرة حسن نية.
جميع السيناريوهات تتقاطع عند نقطة واحدة: أن استعادة الرفات لم تكن عملية معزولة أو تلقائية، بل جرت ضمن سياق سياسي–أمني معقد والإدارة السورية الجديدة، سواء أكانت متورطة مباشرة أو لا، مسؤولة عن إدارة المرحلة الجديدة من السيادة السورية، ويقع عليها عبء التوضيح والتفسير.
وجميع السيناريوهات تشي بأننا إما أمام إدارة تتّبع نهج إعادة التموضع والتقارب مع الغرب أو أننا أمام هشاشة أمنية أو حتى تساهل سياسي خطير. وبغض النظر عن أي من السيناريوهات هو الأصح، فإن لحظة إعلان استعادة رفات جندي إسرائيلي من سوريا ستكون إحدى العلامات المفصلية في قراءة سلوك دمشق الجديد.
لن نستعجل الدفاع عن الإدارة الجديدة بدافع التعاطف معها، كما لن نسارع إلى اتهامها لأننا نرفضها سياسياً أو عاطفياً.
نحن إذاً أمام مشهد سياسي يقفز بنا إلى لحظة اختبار حقيقية لنمط تعامل الإدارة السورية الجديدة مع ملفات السيادة، التفاوض، والرمزية الوطنية. هذا الحدث سيكون مرجعًا يُستند إليه لاحقًا في فهم تموضع سوريا في الإقليم، وفي علاقتها أيضاً بالقضية الفلسطينية.
ولا شك هذا حدث لا يجب التقليل من شأنه، لأن تفاصيله ستكون مؤشراً حاسماً على سلوك الإدارة السورية الجديدة. وقبل معرفة السياق الكامل، يصعب إصدار حكم قاطع: فنحن أمام احتمالين متناقضين اختراق استخباري إسرائيلي، أو اتفاق ضمني من خلف الستار. لكن في الحالتين، فإن ما جرى ليس تفصيلاً، بل لحظة كاشفة.
الرفات التي قيل إنها نُقلت من سوريا إلى إسرائيل ليست مجرد جثة… بل هي مرآة تُظهر جزءاً من ملامح المرحلة القادمة: هل نحن أمام سلطة تعيد ترتيب أوراقها بهدوء؟ أم مجرد اختراق جديد في جدار السيادة؟
لن نستعجل الدفاع عن الإدارة الجديدة بدافع التعاطف معها، كما لن نسارع إلى اتهامها لأننا نرفضها سياسياً أو عاطفياً. نحن بحاجة إلى تبصّر بعقل بارد، لأن هذه الملفات لا تُقرأ ببيانات النفي أو الهجوم، بل بالسياق الكامل للقرار السياسي.
ترى هل هو استدراج ناعم نحو إعادة تطبيع مع الغرب؟ هل فُتح ملف التنسيق الأمني مع إسرائيل من جديد؟ هل باتت الرمزية الفلسطينية مادة للمقايضة ؟ كلها أسئلة مفتوحة، وإجاباتها ستحدد طبيعة المشهد القادم.
باختصار نحن لا نحاكم النوايا، بل نقرأ الوقائع. وعودة رفات جندي إسرائيلي من سوريا، بهذه الطريقة، قد تكون جسراً نحو تغيير أكبر في الخطاب، في التموضع، وربما في طبيعة السيادة ذاتها.