حرب لبنان الأهلية

د- عبد الناصر سكرية

قبل خمسين عاما بالتمام والكمال انفجرت في لبنان حرب دامت ما يقارب 15  سنة وعرفت ألوانا متنوعة من الإجرام والقتل والإختطاف كما وألوانا متعددة للتدخل الخارجي في كل المجالات والميادين..

لم يكن إندلاع تلك الحرب في لبنان مفاجئا للكثيرين..ليس فقط الذين كانوا يتأهبون لها ويعدون عدتهم لخوضها ؛ بل لكثير من المراقبين والمحللين الذين يتابعون تطورات الوضع اللبناني منذ أواخر ستينات القرن العشرين..

في سنة 1969 وحينما إندلعت إشتباكات بين الجيش اللبناني والفدائيين الفلسطينيين ؛ كان التدخل المصري الفوري السبب الأساس في محاصرتها ووضح حد لها فكانت إتفاقية القاهرة بين الفريقين نهاية لها صارمة. أوقفت الإشتباكات ولكنها لم تمنع أطرافا لبنانية ودولية من الإستمرار في إعداد ما يلزم من تعبئة وتحريض وتسلح وتدريب وتواصل خارجي لتفجير حرب في لبنان تحقق أهدافا متنوعة تختلف بإختلاف أصحابها..

كان لإغتصاب فلسطين وإقامة دولة للكيان الصهيوني سنة 1948 ، أصداء شعبية منددة ومستنكرة في معظم أنحاء لبنان..عدا عن مئات اللبنانيين تطوعوا لقتال الصهاينة دفاعا عن فلسطين وعروبتها..تفاعلت مشاعر التأييد لفلسطين مع ظهور الزعامة الناصرية في مصر ..فكان الشارع اللبناني شديد التفاعل مع مصر الناصرية وترجم تفاعله هذا بمزيد من الإلتفاف والتضامن مع قضية فلسطين مترجما بالتفاعل الإيجابي مع الوجود الفلسطيني في لبنان بشقيه :

– السكاني في المخيمات الناشئة لإحتضان  المهجرين من أبناء شعب فلسطين .

– العسكري من خلال المشاركة في نشاطات الفدائيين الفلسطينيين والإنخراط في صفوفهم والقتال معهم ومن ثم الدفاع عنهم..

في مقابل هذا كانت تتراكم في بعض الأوساط المسيحية مشاعر النقمة والرفض لكل هذه الأوجه من التعبير العملي عن ألإنتماء العربي مع ما يعنيه من وحدة المصير ..كانت بدأت محاولات سلخ لبنان عن هويته العربية منذ الإنتداب الفرنسي الذي شجع ورعى إنشاء تنظيمات مسيحية ترفض فكرة الإنتماء العربي للبنان وما يستتبعه من إلتزامات..فكان تأسيس حزب الكتائب سنة 1936 خطوة في هذا السياق..ومنذ 1948 , تصاعد الإلتفاف الشعبي اللبناني حول فلسطين وقضيتها ..ولم يكن هذا الإلتفاف مقتصرا على المسلمين بل شمل الغالبية الساحقة من اللبنانيين.

أما على المستوى الرسمي فلم تكن أجهزة الدولة الأمنية مرحبة بتلك التعبيرات التضامنية فساهمت في فترات الخمسينات والستينات في تخويف الناشطين وإعتقال بعضهم ومحاصرة أنشطتهم وإمتداداتها الشعبية..حتى في تلك الفترة الذهبية للبنان أثناء حكم الرئيس الحر الشريف فؤاد شهاب وتوافقه مع مصر وجمال عبدالناصر..

كانت اميركا والعدو الصهيوني منزعجان جدا من هذا الإلتفاف الشعبي ويعملان بسرية تامة على الإلتفاف عليه وتخريبه وتأليب بعض اللبنانيين عليه وبذلك راحوا يتدخلون بأساليب متنوعة لتجنيد عملاء وتوظيف فعاليات ومسؤولين وتخريب صفوف وبث فتنة وصولا إلى تسليح عناصر وفصائل ميليشيوية وعسكريين إستعدادا للحظة المناسبة بتفجير حرب داخلية في لبنان تستنزف قواه الشعبية وتحاصر الوجود الفلسطيني وتحجم فعاليته قدر الإمكان..

مثلت فترة الحكم الشهابي العصر الذهبي للبنان بفضل عوامل متعددة كان منها التوافق مع مصر ونزاهة الرئيس فؤاد شهاب وسعيه الجدي لبنان دولة قانون ومؤسسات..

الملفت ان غلاة الذين عارضوا حكم الشهابية كانوا من المسيحيين الموارنة وخاصة حزب الكتائب ومعه حزب الأحرار الشمعوني ثم الكتلة الوطنية..هؤلاء خاضوا معارك سياسية شديدة ضد حكم الشهابيين فوجدوا أنفسهم في موقف سلبي ومعرقل لمسألتين :

– بناء دولة المؤسسات والقانون .

– التضامن مع فلسطين وفدائييها..

فكانوا الطرف المقابل الذي يتولى التحريض والتثقيف السلبي للتأليب على الوجود الفلسطيني ؛ مستفيدا من رعاية خارجية وتمويل وتسليح..

في ذات الوقت كانت فصائل وتنظيمات وأحزاب لبنانية تمارس مزيدا من الإلتحام مع القوى الفلسطينية وتستمد منها الدعم والتأييد والتسليح أيضا..

وسط هذه الأجواء المتوترة كانت تنشأ ظاهرة شبابية ملفتة تمثلت في بروز حركات شبابية مسيحية خرجت عن منهج الإصطفاف الطائفي لتعبر عن إنتماء وطني متحرر من العصبيات الطائفية متطلعة لإستمرار مشروع بناء دولة القانون والمؤسسات..وكانت الجامعة الوطنية اللبنانية مرتع تلك الحركة ومجالها الحيوي الذي توفرت له عوامل إيجابية أهمها اختلاط الشباب اللبناني من كافة المناطق على مقاعد الدراسة..وذلك على خلفية الأجواء الإيجابية التي أشاعها الدور المصري في مساعدة لبنان وإطلاق مشروع عربي تحرري نهضوي وتقدير ظروف لبنان الخاصة وعدم تحميله ما لا يطيق …

كانت إنتخابات رئاسة الجمهورية سنة 1970 , فرصة لأؤلئك الذين يعدون العدة للحرب ؛ أو أؤلئك الذين لم يقدروا حساسية الموقف كفاية فوقعوا في سوء التقدير..وكانت خطيئة الزعيم الوطني كمال جنبلاط الكبرى حينما خالف تمنيات مصر بإنتخاب إلياس سركيس مفضلا إنتخاب سليمان فرنجية ..( بتوجيه من الإتحاد السوفييتي وقتها ) ..وفي عهد الرئيس فرنجية تصاعدت حدة التوتر الداخلي والتمترس وراء العصبيات المتشددة  وتراجعت وظيفة الدولة ومؤسساتها وتوسعت ظاهرة الفساد والمحسوبيات الأمر الذي ساعد في توفير مناخات مناسبة لإطلاق حرب ” أهلية “..

ومما لا شك فيه أن كثيرا من الممارسات الخاطئة من الأطراف الفلسطينية المسلحة ، فاقمت المشاعر السلبية وساهمت في تزويد الأطراف الداخلية المناوئة لمصير لبناني – عربي واحد ، والأطراف الدولية الساعية لإشعال حرب أهلية في لبنان ؛ بمزيد من الحجج والمبررات لتصعيد التحريض على المقاومة الفلسطينية وتأليب الرأي العام – ولا سيما المسيحي عليها..

وقد لعب الدور النشط للساحة اللبنانية في مجال الخدمات والبنوك والإستشفاء والإستثمارات المتنوعة بما جعل مطار بيروت مرفأ حيويا للغاية كما جعل ميناء بيروت البحري ( مرفأ بيروت ) يحتل موقع الصدارة في المنطقة فكان محور حركة تجارية نشيطة جدا ؛ الأمر الذي أثار حسد وغضب وإستياء العدو الصهيوني ؛ فكان أن اصبح طرفا في التدخلات الخارجية في الوضع اللبناني ، فمد جسورا من التعاون العسكري مع أطراف لبنانية ، مما ساهم بالإستعجال بتفجير الحرب الداخلية في نيسان 1975..

وكما إتضح من سير العمليات والأحداث منذ ذلك التاريخ ، فإن ثمة أهداف إستراتيجية للتدخل الخارجي ( أميركي – صهيوني – غربي ) تمثلت ابرزها في :

1- القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان بإعتباره هدفا دائما للعدو الصهيوني ..وهو الهدف الذي أنجز القسم الأكبر منه النظام السوري السابق الذي دخلت قواته إلى لبنان بطلب أمريكي وتوافق إسرائيلي فكانت مجازر تصفية مخيم تل الزعتر بداياته الأولى..ثم جاء الإجتياح الإسرائيلي ليقضي على ما تبقى منه فكانت مجازر مخيمات صبرا وشاتيلا على يد القوات الإسرائيلية وأدواتها المحلية المتمثلة بالقوات اللبنانية ..ثم تابعت أدوات النظام السوري السابق حصار المخيمات لتضييق الحصار وتهجير اكبر عدد ممكن من الوجود البشري المدني الفلسطيني فيما عرف بحرب المخيمات .في بيروت أولا ثم في طرابلس والشمال..

2 – القضاء على صيغة الوطن اللبناني الواحد الموحد الذي يجمع أبناء طوائف وأديان متعددة الأمر الذي يشكل نقيضا للمشروع الصهيوني الذي يعمل على بناء دولته اليهودية مجتمعا ذا صبغة دينية واحدة ترفض التعدد..

3 – إطلاق مسيرة المشروع الأمريكي – الصهيوني بتفجير المجتمعات الوطنية العربية إلى دويلات طائفية ومذهبية وعرقية..فكانت حرب لبنان تلك بمثابة مختبر ميداني لتنفيذ ذلك المشروع في لبنان أولا ..وقد بينت الأحداث اللاحقة في المنطقة العربية على إستخدام تجربة تلك الحرب ودروسها لتعميم التجربة على بقية دول المشرق العربي المحيطة بفلسطين العربية المحتلة ..كما إتضح في إحتلال العراق وإقامة نظام للمحاصصة الطائفية والمذهبية بالتعاون بين إيران واميركا..

وفيما لا تزال تداعيات تلك الحرب وإمتدادات ذلك المشروع التدميري قائما في عموم المنطقة ؛ لا يزال لبنان يعاني منها فيما يتمثل في إضمحلال الدولة والوصايات الخارجية وهيمنة المشاريع الطائفية والمذهبية على حساب الولاء الوطني الموحد..رغم ما يجري من محاولات جدية لإعادة بناء الدولة وتفعيل مؤسساتها الوطنية..

وما لم تتوفر مؤسسات شعبية تتكامل فيها جهود الوطنيين الشرفاء في كل دول المشرق العربي وفق رؤية موحدة لطبيعة التحديات الإقليمية والدولية المتكاملة مع المشروع التوسعي الصهيوني ؛ وعملا ببرنامج عمل وطني توحيدي جامع ومقاوم ؛ فإن التداعيات السلبية قد تستمر لفترة ليست قصيرة مع ما يعني ذلك من دفع أثمان باهظة من حياة ابناء المنطقة ومستقبلها وهويتها ومصيرها.

المصدر: كل العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى