لم يكن أحد بحاجة إلى الاستماع لخطاب رئيس النظام السوري بشار الأسد الأخير أمام أعضاء مجلس الشعب الجديد الأربعاء، للتأكد من أن النظام لا يقيم وزناً لكل مسارات العملية السياسية القائمة بالفعل، أو التي يتم السعي إليها من أجل انهاء الحرب في سوريا.
لم يكن النظام مهتماً بالأصل بمثل هذا النوع من الحلول، فحتى عندما كان في أسوأ حالاته وفقد السيطرة على أكثر من 70 في المئة من الأراضي السورية، تعامل مع كل المبادرات السياسية باستخفاف، وأصرّ على الخيار العسكري ومواصلة الحرب، ما يجعل من قبوله الطوعي بالتخلي عن هذا الخيار اليوم ضرباً حقيقياً من الخيال.
“ما لم يحققوه بالإرهاب لن يحققوه بالسياسة” يقول الأسد في خطابه الأخير، الذي أضاف إليه نكهة (انخفاض الضغط والإصابة بالاعياء)، ويضيف “لن يكون ذلك حتى في أحلامهم..أما اللجنة الدستورية فمهمتها فقط إعداد مسودة دستور جديد للبلاد سننظر بالموافقة عليها حينها..ليس أكثر”.
يُفترض هنا مرة أخرى أن رئيس النظام يضرب عرض الحائط أيضاً بما يقال عن ضغوط روسية تمارس ضده من أجل انخراط أكثر جدية في المسارات والجهود السياسية التي تدعمها روسيا، بما في ذلك أعمال اللجنة الدستورية، وقبل ذلك بطبيعة الحال مسار أستانة المعلق منذ ما قبل جائحة كورونا، والذي لا يعلم السوريون حتى الآن مضامينه وطبيعته وأهدافه وسقفه، لكن أفضل التقديرات تقول إن هذا المسار يسعى للتوصل إلى اتفاق بين المعارضة والنظام من أجل “حكومة شراكة وطنية”.
هدف أيضاً كان بشار الأسد وكل رجالاته قد كرروا باستمرار رفضهم المطلق له، بل ولم يتردد النظام بتوجيه رسائل واضحة لموسكو بضرورة التخلي عن هذا التوجه، والتوقف عن ممارسة الضغوط من أجل المضي قدماً به أكثر، بشكل يجعل منه قريباً من الجد، بعد أن تعاملت معه دمشق بمنتهى الهزل، “فنحن لم نستعِن بكم من أجل تقديم تنازلات لم تنلها المعارضة في أوج قوتها وفي عز ضعفنا، بل من أجل تثبيت النظام، أما وقد تحقق هذا الهدف اليوم فلماذا يجب علينا تقديم أي تنازلات؟!” يقول لسان حال النظام.
اللافت هنا أن موسكو تعاملت مع رسائل النظام هذه، التي كان أول ساعي بريد لها عضو مجلس الشعب خالد العبود في حزيران/يونيو الماضي، بما يرضي النظام وأكثر، فابتلعت الإهانات التي تضمنتها هذه الرسائل والتي شملت حتى الرئيس فلاديمير بوتين ذاته، وقررت رفع مستوى التمثيل الديبلوماسي لسفيرها بدمشق إلى مستوى مبعوث رئاسي خاص، وأوقفت الحملة الإعلامية الروسية التي كانت قد بدأت تتحدث بصوت مرتفع عن فساد النظام وتهالكه وانتهاء صلاحيته، وعادت لتتماهى أكثر مع موقف الحليفة الأخرى إيران، بالتهديد باطلاق معركة جديدة أخرى كانت ترفضها في إدلب.
تم دفن مسار أستانة، أو هذا ما يبدو عليه الأمر الآن، وكل ما تبقى منه هو اتفاق الهدنة في إدلب الذي يبقيه قائماً أمر واقع جديد فرضه التدخل العسكري التركي الواسع إلى جانب المعارضة هناك، وبينما تصر الولايات المتحدة على إبقاء الروح حية في قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي يكاد يصبح ذكرى هو الآخر لولا أن قانون “قيصر” قد ذكّر به، تبدو اللجنة الدستورية المسار السياسي الوحيد الذي ما زال قائماً ويقبل به النظام لكن على مضض وبشروط تعجيزية.
تدرك المعارضة من ناحيتها هذا الموقف، ليس فقط المعارضة الأكثر تمسكاً بهدف إسقاط النظام، بل حتى تلك التي تظهر واقعية أكبر وتدعو لحلول وسط، وقد باتت اليوم جزءاً أساسياً من هيئة التفاوض المعارضة واللجنة الدستورية، تدرك هي الأخرى أن السلطة الحاكمة في دمشق تتعامل مع الاجتماع القادم للجنة، المقرر في 14 تموز/يوليو، ومجمل أعمال هذا المسار باستخفاف، وأن مشاركة النظام فيه مجرد تمرير للوقت ليس أكثر.
تقول المعارضة إن الحل الدبلوماسي هو خيارها الاستراتيجي، وفي توجهها الجدي نحو لقاء اللجنة الدستورية القادم في جنيف، تريد التأكيد مرة أخرى أنها تهتم لأمر السوريين وتسعى لتعجيل خلاصهم، لكن ما بيدها ليس أكثر من تسجيل النقاط في سلة النظام وزيادة إحراجه أمام الشعب الذي لا يبدو جزءاً من حسابات هذا النظام أو اهتماماته.
في خطاب واحد يقدم الأسد حلولاً لكل مشاكل السوريين، ووصفات علاج لأمراض الفقر والبطالة والتضخم واهتراء البنى التحتية للخدمات والصحة والسياحة والصناعة والزراعة والأمن والتعليم… الخ، وهي وصفات يمكن اختصارها بجملة واحدة هي: الصمود والصبر.
الصمود والصبر على كل هذه المعاناة، وعلى نظام أيضاً ليس بوارد تقديم أي تنازلات، ليس فقط للمعارضة المطلوب منه دولياً إطلاق سراح معتقليها وكل سجناء الرأي، والتوقف عن قصف المدنيين في مناطق سيطرتها، الذين يفترض أنهم أيضاً من هذا الشعب المُطالب بالصبر، والدخول معها في حوار جدي لإنهاء الحرب، بل حتى تلك التنازلات المتعلقة بإيران وتواجدها العسكري في سوريا، يرفض النظام أي نقاش حولها ويقول بوضوح: إذا كنت غير مستعد لتقديم تنازلات في العلاقة مع إيران، فهل تتخيلون أن أقدم تنازلات على حساب السلطة والحكم..؟!
في ظل هذه الأجواء تتحضر المعارضة للتوجه إلى العاصمة السويسرية جنيف بعد ثمانية أيام من أجل بدء اللقاء الثالث للجنة الدستورية السورية التي كانت إحدى مخرجات مساري استانة وسوتشي، الذين تقوم عليهما كل من روسيا وتركيا وإيران، والذين تم إنتاجهما ليكونا بديلين عن مسار جنيف، وهي تدرك، أي المعارضة، أن لا آمال تُعلق على مشاركة النظام في هذا اللقاء، ولا أمل بضغط حلفائه عليه، وأن الأمل الوحيد معقود اليوم على الوقت الذي يعول عليه النظام أيضاً، إلا إذا حدثت مفاجأة أو معجزة لا أنها ممكنة خلال ثمانية أيام.
المصدر: المدن