
شكّلت التعددية العرقية والدينية والطائفية في سوريا إحدى السمات البنيوية للمجتمع السوري، وكان من الممكن أن تكون عامل إثراء وتكامل وطني، لولا أن الأنظمة البعثية المتعاقبة وظّفت هذا التنوع لخدمة مشروعها السلطوي، عبر تغذية الانقسامات المناطقية وتعميق الشعور الأقلوي داخل بعض المكونات الاجتماعية. ومع انطلاق الثورة السورية في آذار/مارس 2011، تصاعد هذا النهج بشكل حاد، حيث استخدم النظام الخطاب الطائفي كأداة لتفتيت النسيج المجتمعي وتقويض الإجماع الوطني. وفي هذا المناخ المشحون، وجد دروز جبل السماق في ريف إدلب أنفسهم أمام معادلة معقّدة، تجمع بين العزلة الجغرافية عن مركز ثقل الطائفة في جبل العرب، والتفاعل اليومي مع محيط سني واسع تَغيّرت دينامياته مع تغيّر القوى المسيطرة على إدلب. ومن هنا برزت تجربتهم كأنموذج فريد للتماسك الاجتماعي والتعايش الأهلي في وجه استقطابات الحرب والانقسام.
- الجغرافيا التاريخية لمنطقة جبل السماق
باريشا أو الجبل الغربي قديمًا، وجبل السماق حديثًا، أسماء أطلقت على المنطقة الجبلية، وأطرافها السهلية الواقعة شمال غربي مدينة إدلب بنحو 20 كيلومتراً، المنطقة التي تشكل جزءًا وسطيًا من امتدادات جبال طوروس. سميت مؤخرًا بمنطقة جبل السماق؛ لكثرة شُجيرات السمَّاق الحِراجية. تنتشر على سفوح جبل السماق وأطرافه السهلية ثماني عشرة بلدة درزية صغيرة لا يزيد مجموع سكانها عن ثلاثين ألف نسمة[1].
“يتكون الجبل يتكون، من قريتين مختلطتين سنة ودروز، والبقية تضم قرى درزية خالصة، من تلك القرى: كفتين وبيرة كفتين ومعارة الإخوان وكفر بني وعرشين وبنابل وقلب لوزة وبشندلنت وبشندلايا وتلتيتا وكفر مارس وحُلة والدوير وعلاتا وعَبريتا وجَدعين وكوكو..[2]. وعند النظر إلى هذا التموضع الجغرافي، يظهر لنا أهمية منطقة جبل السماق في وسط الأحداث الدائرة في سوريا، منذ نحو سبع سنوات.
وانخرط أهالي جبل السماق في النضال الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وشاركوا بفعالية في الثورة السورية الكبرى إلى جانب قائد ثورة الشمال إبراهيم هنانو، الذي اتخذ من الجبل نقطة ارتكاز لأنشطته، كما استُقبلت عائلته في قرية معارة الإخوان، ما يدل على انخراط هذا المجتمع في المشروع الوطني العام. ورغم محاولات سلطات الانتداب الفرنسي بثّ الفتن الطائفية بين سكان الجبل وجيرانهم، فإن تماسك العلاقات الاجتماعية حال دون ذلك. ومع استلام حزب البعث السلطة عام 1963، تكرّس التهميش الاقتصادي والإداري للمنطقة، لا سيما إثر تطبيق سياسات الإصلاح الزراعي التي أفضت إلى انتزاع جزء كبير من ملكيات الأهالي، ما دفعهم إلى الاعتماد على إمكاناتهم الذاتية في تسيير شؤونهم، وهو واقع استمر حتى اندلاع الثورة السورية في آذار/مارس 2011.
قام التنظيم المجتمعي في القرى الدرزية بمنطقة السمَّاق منذ نشأته على التوزيع الإقطاعي والملكيات العائلية حتى منتصف القرن العشرين، فكانت كل قرية تتبع سلطة آغا أو وجيه اجتماعي، ممن نال الحظوة لدى السلطة. وحتى يومنا هذا، لا يزال الموحّدون يُظهرون طاعة حقيقية لشيخ الطائفة أو كبير العائلة ليس من دافع اقتصادي بل من دافع روحي وأخلاقي[3].
ولكنه يختلف عما هو عليه الحال جبل العرب، فقد منح تداخل العلاقة بين دروز السماق وجيرانهم من السُنة والبُعد الجغرافي عن جبل العرب، منطقة السماق دينامية مذهبية واجتماعية ومحلية خاصة، فغلب عندهم الاعتبار العائلي والعشائري على الطائفي الديني في كثير من قضاياهم الداخلية، وسادت حالة الاندماج الاجتماعي بدلًا من العزلة والانغلاق الكامل. إلا في حالات محددة، فتميزوا بهوية وعادات مزدوجة، فإذا كانت البنى الدينية تُظهر تمسك الدروز ببعض القيم الدينية، فإن البنى الاجتماعية تكثف علاقات التضامن بينهم وبين جيرانهم.
تمثل العائلة بالنسبة لدروز السماق جوهر الحياة، وقاعدة يعتمد عليها كل فرد، ومهما بلغ مستوى الفرد العلمي أو الاقتصادي نتيجة تعلمه أو مهنته أو مكانته السياسية، فإنه يُعرف بالنظر لعائلته “ابن فلان”[4]: “يعيش سكان الجبل في بيئة مغلقة فيما يتعلق بالتزاوج، فمن غير الممكن أن يقوم أحد أهالي السماق بالزواج بأكثر من واحدة أو الزواج من خارج الجبل إلا ما ندر، سواء من امرأة مسلمة سُنية أو مسيحية والعكس”[5]. في حالات الزواج فقط تغلب الاعتبارات الدينية. وهو إن كان يحقق لهم مزايا مثل الاستقرار العائلي فإنه بالمقابل ترك تأثيراته السلبية مثل ارتفاع نسبة العنوسة والأطفال المصابين بالإعاقات الجسدية[6].
يقول قصاب آغا (رئيس المجلس المحلي في بلدة معارة الإخوان في السماق) في هذا الصدد: “في الفترة التي سبقت قيام الثورة السورية، تشكلت العلاقات بين قرى السماق على أساس المشاركة في الفرح والمأتم. ولا يزال أهالي القرى السُنية المجاورة يشاركون جيرانهم في ذلك حتى الوقت الراهن”[7].
اعتمد النظام السوري بداية الثورة السورية على الورقة الطائفية، فحاول تسليح دروز جبل السماق، وحثهم على قمع المتظاهرين السلميين في القرى المحيطة، ولكنهم رفضوا ذلك. بل وشارك عدد من شباب السماق بالمظاهرات خارج قراهم، وتحولت قراهم لأماكن آمنة لإيواء جيرانهم الملاحقين أمنيًا، ولا سيما بعد عسكرة الثورة. لذلك لم تنج قرى الجبل من قصف قوات النظام العشوائي، وذلك بعد تزايد عوائل النازحين في قراهم (حزيران/ يونيو 2012) وكذلك أصيب شابان من أبناء دروز السماق في مدينة معرة مصرين المجاورة بعد تعرضها لقصف الطيران الحربي في مطلع عام 2016. وفيما بعد، تعرضت قرى قلب لوزة، وكوكو وتل الدوير وتل تيتا وكفتين، لرشقات كثيفة من القنابل العنقودية، أدت لمقتل امرأة وطفل، بالإضافة إلى عدد من الجرحى، وذلك في شهر تموز/ يوليو 2016[8].
“لم نشهد في محيطنا أحقاد طائفية، ولم يمارس علينا أي نوع من الاستقواء من جيراننا السُنة، وحتى بعد الثورة ظل هناك تبادل للزيارات، وعلاقات في العمل والتجارة.. ونجد العلاقة بين بلدة كفتين بغالبيتها الدرزية وجارتها بلدة كلّي ذات الأغلبية السنية، أكثر رسوخًا مما هي عليه علاقة كفتين ومعارة الاخوان، وهي ذات المرجعية الدينية الواحدة، وهو أمر قائم إلى يومنا هذا”[9].
ولقد أخفق النظام السوري في تطييف العلاقة بين الجبل والسهول السُّنية من حوله، ولم يتمكن من إحداث صدام بين أبنائها. فقد كان خطاب الثورة ينادي بالحرية والعدالة الاجتماعية. وبقيت علاقة الجوار بأفضل حال، حتى بعد مصادرة هيئة تحرير الشام (جبهة فتح الشام آنذاك)، لبعض بيوت ومتاجر أهل الجبل المحسوبين على النظام السوري عند اقتحام قراهم.
وعلى الرغم، مما تعرضت له منطقة جبل السماق من أعمال سرقة وخطف وترهيب من قبل تنظيم الدولة “داعش” في إدلب، وانتهاكات حدثت في أثناء وجود جبهة النصرة في بداية سيطرتها لاحقًا، هذا بالإضافة عن اعتقال عدد من سائقي الشاحنات من أبناء الجبل في مناطق سيطرة النظام، وتصفية عدد من المنشقين منهم أو المدنيين على أيدي قواته في حماة أو فقدانهم في مناطق معارضة، فإن هذا لم يزعزع العلاقات الاجتماعية بين أهل السماق وجيرانهم السُّنة، بل نرى أن ثوار المناطق المجاورة، بذلوا جهودهم للوصول إلى الجنود الراغبين بالانشقاق من أبناء السماق أو أولئك الذين تعرضوا للخطف والسرقة، وسعوا لإطلاق سراحهم أو استعادة أرزاقهم. كما سلموا بعض المخطوفين من دروز جبل العرب إلى أقربائهم في السمَّاق. وقد قام بعض قادة الثوار السوريين بزيارات متعاقبة التقوا بها أعيان منطقة السماق، ففي شهر أيار/ مايو 2014، زار قائد جبهة ثوار سورية “جمال معروف”، والذي كانت قواته تسيطر على المنطقة إثر انسحاب قوات الأسد منها، أحد أعيان الجبل “الشيخ أبو اسماعيل” في قرية قلب لوزة، وعبر عن متانة العلاقات الأخوية بينهم، وسعى لتلبية بعض احتياجات ومتطلبات أهالي الجبل الأمنية والخدمية[10]. ما أدى إلى تعزيز الثقة في العلاقة، وتزايد التضامن المجتمعي، وقربت الجوار الأهلي بين أبناء بلدات وقرى المنطقة.
ولقد استمر أهالي السماق في استقبال السكان النازحين السُّنة من القرى المجاورة التي كانت تتعرض للقصف اليومي من معسكرات النظام الأسدي القريبة، وطائراته، حتى فاق النازحين أعداد السكان الأصليين في الجبل ضعفين. وإذ بلغ عدد سكان بلدة كفتين نحو 7000 نسمة، وهي التي لا يتجاوز عدد سكانها الأصليين 2200 نسمة عام 2015م[11].
شكّلت الزراعة عماد الاقتصاد المحلي في منطقة جبل السماق، حيث اعتمد السكان بشكل رئيس على زراعة الزيتون والحبوب والتبغ كمصدر رزق أساسي. ويأتي في المرتبة الثانية دعم الجاليات الدرزية في المهجر، لا سيما في أميركا الجنوبية ولبنان وأستراليا، حيث أنشأ المغتربون جمعيات خيرية وصناديق تعاونية شهرية لتقديم المساندة المالية لأهاليهم في الداخل. أما المصدر الثالث للدخل فتمثل في نشاط برادات الشحن التي تنقل الخضروات والفواكه إلى الأسواق الداخلية، إضافة إلى الوظائف الحكومية التي شكّلت موردًا لما يقارب 30% من السكان.
غير أن هذه المنظومة الاقتصادية شهدت انهيارًا تدريجيًا منذ اندلاع الثورة السورية، حيث تراجع الإنتاج الزراعي نتيجة لضعف الدعم وتردي الأوضاع الأمنية. كما فرضت هيئة تحرير الشام قيودًا صارمة على زراعة التبغ، وصلت حد إحراق مخازنه في بعض القرى مثل “قلب لوزة”، بحجة تحريمه دينيًا. في موازاة ذلك، تعرّض نشاط النقل الزراعي لضربة قاسية بعد اختفاء أربعة من سائقي الشاحنات على أحد حواجز النظام في مدخل مدينة حمص عام 2012، وعُثر لاحقًا على مركباتهم تُستخدم من قبل جهات أمنية، من دون التوصل إلى مصيرهم، ما دفع معظم الناقلين إلى تعليق نشاطهم أو التحول إلى العمل في نقل المساعدات والسلع التركية إلى الداخل السوري.
وفي ظل هذه التحولات، ومع سيطرة هيئة تحرير الشام على محافظة إدلب، بدأت بوادر مرحلة جديدة في علاقة أهالي جبل السماق مع السلطة الفعلية في المنطقة، تمثّلت بتقديم بعض المساعدات الإنسانية والخدمات، وتوّجت بزيارة زعيم الهيئة آنذاك، أبو محمد الجولاني (الرئيس السوري أحمد الشرع حاليًا)، إلى الجبل ولقائه بوجهائه، في محاولة لفتح صفحة جديدة بعد مرحلة من التوتر والمظالم.
أسست بلدة كفتين أول مجلس محلي في منطقة جبل السماق بشكل ذاتي، تبعتها لاحقًا بلدة قلب لوزة، من دون تدخل من قوى المعارضة السياسية أو الفصائل العسكرية كـ”الجيش الحر” أو “هيئة تحرير الشام”. وقد اعتمدت هذه المجالس على جهود الأهالي الذاتية، بدعم من الجاليات الدرزية في المهجر، لتوفير الخدمات الأساسية، في حين أسهمت منظمات محلية ودولية في تنفيذ بعض المشاريع الخدمية المحدودة. ومع توسع نفوذ هيئة تحرير الشام، بدأ تدخلها في إدارة المنطقة عبر مديرية الخدمات المحلية التابعة لحكومة الإنقاذ، ما أثار توترًا خاصة بعد حادثة قلب لوزة في حزيران/يونيو 2015. ومنذ ذلك الحين، أصبح التعامل مع أهالي الجبل يتسم بالحذر، حيث يُستطلع رأي السكان بشأن استمرار المجالس المحلية أو تعديلها عند تغيير القيادات الإدارية. وقد حافظ مجلس كفتين على استمراريته منذ التأسيس، من خلال تداول منتظم للمهام بين كوادره، مما يعكس استقرارًا مؤسسيًا مدعومًا بثقة مجتمعية[12].
وهكذا، ورغم العزلة الجغرافية، والتغيرات التي تعرضت لها إدلب خلال الثورة السورية، استطاع دروز جبل السماق الحفاظ على تماسكهم الاجتماعي، وعاداتهم، وثقافتهم الموروثة، وتفادي الانجرار إلى خطاب الأسد الطائفي. بل شكلت تجربتهم نموذجًا فريدًا للتعايش مع الجوار السوري السني، فهم جزء أصيل من المجتمع الإدلبي. وبعد 8 كانون الثاني/ ديسمبر 2024، عاد كثير من أبنائهم من المهجر لعيشوا فرحة التحرير والنصر السوري.
[1] حسام الزير، “دروز جبل السماق بين مستقبل الوجود وظروف الحياة”، نبض الشمال، (بيروت)، 12 نيسان/ أبريل2015، انظر: http://bit.ly/2cBkr4F
[2] حوار خاص مع عبد المجيد شريف، واقع دروز جبل السماق قبل الثورة السورية وبعدها، 5 ــــ 9 أيلول/ سبتمبر 2016.
[3] عباس الحلبي، الموحدون الدروز “ثقافة وتاريخ ورسالة”، (بيروت، دار النهار، ط2 2012)، ص76.
[4] المرجع السابق، ص. ص82 ــ 83.
[5] الشريف، حوار خاص، المرجع السابق.
[6] فادي عبيد، وع. إ، حول العادات والتقاليد في جبل السماق، حوار واتس آب، 1 – 2 أكتوبر 2016.
[7] قصاب آغا، حوار خاص، المرجع السابق.
[8]– المرجع نفسه.
[9] قصاب آغا، حوار خاص، المرجع السابق.
[10] لقاء جمال معروف بشيخ عقل طائفة الدروز الموحدين في ادلب، بتاريخ 7 أيار/ مايو 2016، للمزيد انظر: http://bit.ly/2ciGAXn
[11] معلومات مستمدة من حواراتي مع الشريف وقصاب آغا وفادي عبيد وعدد من نشطاء الجبل الإنسانيين، حوار واتس آب، 5 – 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2016.
[12] قصاب آغا، حوار خاص، المرجع السابق.
المصدر: تلفزيون سوريا