نشوة العدالة الغائبة.. سيكولوجيا أهالي ضحايا النظام في سورية

حمدان العكلة

طالما كانت العدالة تطلعاً إنسانياً نبيلاً، لا ينطفئ وهجه حتى في أحلك الظروف، فهي تعبير عن التوق الإنساني للكرامة والمعنى، وقد شغلت موقعاً مركزياً في الفكر الفلسفي، منذ أفلاطون الذي رأى فيها انسجاماً بين عناصر النفس، إلى كانط الذي اعتبرها تجسيداً للإرادة الأخلاقية الحرة، فالإنسان، بطبيعته، يتوق للعدل كما يتوق للحياة، لأن غيابه يربك المعنى ويقوض التماسك النفسي والمجتمعي، وفي السياق السوري، حيث ارتُكبت جرائم ممنهجة لعقود، تتحول العدالة الانتقالية من مطلب قانوني إلى ضرورة وجودية ونفسية لأهالي الضحايا، إنهم لا يسعون فقط إلى إدانة الجناة، بل إلى ترميم الكرامة المهدورة واستعادة ثقتهم بعالم يعترف بالألم الإنساني، وهنا، تصبح العدالة فعل مقاومة للعبث، وأداة لإعادة بناء الذات والمجتمع، من خلال المحاسبة والاعتراف العلني بالمعاناة.

في لحظة الإعلان عن اعتقال أحد رموز النظام السوري المتورطين في جرائم ضد الإنسانية، لا تنبثق مجرد ردة فعل وجدانية بسيطة لدى أهالي الضحايا، إنما تنفجر سلسلة مركبة من التفاعلات النفسية العميقة التي تعكس تعقيد التجربة الإنسانية في مواجهة الظلم المستمر، تتقاطع في تلك اللحظة مشاعر الفرح المباغت، بوصفه بارقة من الأمل، مع الحزن العميق الذي يرسّخ استذكار الفقد، والغضب الكامن الذي يعيد إحياء صدمة الإفلات من العقاب، وأخيراً الريبة التي تطرح تساؤلاً مؤلماً: هل هذه الخطوة فعلاً بداية لمسار عدالة حقيقي، أم مجرد إجراء شكلي لا يتجاوز كونه استجابة دعائية مؤقتة؟

إنَّ هذه المشاعر المتضاربة تنبع من قاع الوعي الجمعي المثقل بجراح تاريخية لم تندمل، وكما أشار عالم النفس كارل يونغ(Carl Jung): “الظل لا يختفي، بل يواجهك حين لا تتوقعه”، إن هذه المقولة تعبّر بدقة عن حالة أهالي الضحايا الذين، في تلك اللحظة، يواجهون ظلال القهر والخذلان المتراكم، إنها لحظة اصطدام نفسي بين الماضي والمستقبل، حيث يعود المقموع إلى السطح ليطالب بالاعتراف، كما تُضيء الطبيبة النفسية إليزابيث كوبلر روس (Elisabeth Ross) هذا المشهد من خلال نظريتها حول مراحل الحزن، حيث تشير إلى مرحلة “الأمل الخادع” التي تلي مشاعر الحزن العميق، وتُغري المصاب بأن شيئاً من الإنصاف قد يتحقق، في الحالة السورية، تتجسد هذه المرحلة بوضوح في تجربة أهالي الضحايا الذين يجدون أنفسهم عالقين بين رغبة مُلحة في تصديق إمكانية العدالة، وخوف دفين من أن تكون هذه النشوة مجرد سراب، هذه المفارقة النفسية تُحدث ارتباكاً داخلياً: بين التصديق والشك، بين الرغبة في النشوة وبين الخوف من تكرار الخذلان.

وهنا تكتسب مقولة الفيلسوف الفرنسي بول ريكور أهمية خاصة، حين يقول: “العدالة هي ذاكرة المستقبل”، فالعدالة، من هذا المنظور، ليست فقط تسوية قانونية للماضي، بل هي أيضاً الضامن الرمزي لمستقبلٍ لا يتأسس على النسيان أو الإنكار، لذلك، فإن اللحظة التي يُعتقل فيها أحد الجناة يمكن أن تفهم على أنها  إجراء عقابي، وفعل رمزي يحمل في طياته محاولة لاستعادة المعنى في وجه عبثية الألم. إنَّ نشوة أهالي الضحايا في هذه اللحظة ليست إذاً تعبيراً عن انتقام، بل هي استعادة رمزية لمعنى الفقد، وتأكيد على أن الغياب لم يكن بلا جدوى، كما لو أن صوت الضحية يعود في تلك اللحظة ليهمس في ضمير العالم: “أنا لم أمت عبثاً”، بهذا المعنى، تتحول لحظة الاعتقال إلى تجربة وجودية تتجاوز بعدها الإجرائي، وتغدو محطة محورية في رحلة طويلة نحو إعادة الاعتراف بالكرامة البشرية المهدورة، واستعادة الأمل بعد طول إنكار.

إنَّ الاعتقال الفردي أو المحاسبة الرمزية، مهما بدت للوهلة الأولى مشجعة، إلا أنها لا تمثل نهاية الطريق نحو تحقيق العدالة، إنما هي مجرد خطوة تمهيدية لا تكتسب معناها الكامل إلا إذا اندرجت ضمن إطار عدالة انتقالية شاملة ومتكاملة، فالمساءلة الحقيقية لا تقتصر على محاكمة الأفراد، إذ إنها تتطلب بنية مؤسساتية تكرّس الاعتراف الرسمي بالضحايا، وتضمن استمرارية المساءلة، وتُحدث تحولاً عميقاً في البنية القانونية والسياسية، لترميم الشرخ المجتمعي وإعادة بناء الثقة في مفهوم الدولة والعدالة، وإن غياب هذا المسار الشمولي يُبقي الجراح النفسية مفتوحة، ويحول دون تحقيق التعافي الفردي والجماعي، فكما يقول الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين(Giorgio Agamben): “ما لم يُقال، يعود بطريقة أخرى”، وبالمثل، فإن الألم الذي لم يُعترف به علناً يتحول إلى عبء داخلي مزمن، يعيد إنتاج ذاته في صيغ اجتماعية ونفسية معقدة، في هذا السياق، تصبح لحظة “نشوة العدالة” — أي تلك الاستجابة العاطفية الأولى التي تعقب خبر المحاسبة — مجرد ومضة عابرة، لا تملك القوة الكافية لتغيير البنية النفسية العميقة التي تشكلت على مدار سنوات القمع والخذلان.

وقد أكدت الدراسات النفسية المعاصرة، لا سيما في حقل علم النفس الصدمي(Trauma Psychology)، أن غياب العدالة المستقرة والمُعترف بها مؤسسياً يؤدي إلى ما يُعرف بـالصدمة المستمرة أو الصدمة المعقدة (Complex Trauma)، وهي حالة يعيش فيها الأفراد في حالة دائمة من الترقب واللايقين الوجودي، مما يؤثر على توازنهم النفسي، وسلوكهم الاجتماعي، وحتى رؤيتهم لذاتهم والعالم من حولهم، فالعدالة المؤجلة لا تشفي الجرح، بل تُعيد إنتاجه في أشكال أكثر خفاءً، لأنها تُخفيه خلف أقنعة جديدة من الإنكار أو الإنهاك أو الانفصال العاطفي.

ختاماً، إن نشوة أهالي الضحايا ليست سوى لحظة مركبة من الانفجار العاطفي الذي ينطوي على عمق تاريخي وشخصي شديد التعقيد، هي لحظة قد تحمل في طياتها بوادر شفاء، لكنها لن تكون كافية من دون خطوات مؤسسية عادلة، صادقة، ودائمة، كما قال أرسطو: “العدالة هي الفضيلة الكاملة، لأنها تمارس لا من أجل الذات، بل من أجل الآخر”، وبهذا المعنى، فإن تحقيق العدالة في سوريا هي من أجل الضحايا، ومن أجل إنسانية الجميع، وهي وضرورة نفسية وأخلاقية لا غنى عنها من أجل ضمان سلام داخلي حقيقي، وإعادة نسج علاقة صحية بين المواطن والدولة، وبين الفرد وتاريخه الشخصي والجمعي.

المصدر: تلفزيون سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى