
قبل سنة من رحيل الرئيس التونسي الأسبق، الحبيب بورقيبة، وتحديداً في 1986، صدر عن دار نشر التونسية مجموعةٌ قصصيةٌ هي أقرب إلى لوحات روائية، عنوانها “عبّاس يفقد الصواب”، لأديب شابّ آنذاك، قادم من خارج آلة الكتابة الأدبية، متمرّد على أساليب الكتابة ونواميسها، هو حسن بن عثمان. أثارت الرواية جدلاً لدى النقاد، ويعدّها كاتب هذه السطور علامةً فارقةً في تاريخ الأدب التونسي، ولا تزال فريدةً ومربكةً وهائجةً على طقوس الكتابة والحياة، صوّرت فترة صعبة من تاريخ المجتمع التونسي وهو يودّع تقريباً مرحلةَ زعيمه بورقيبة. لقد استطاعت أن تنفذ إلى تلك المناخات الثقيلة والعبثية والغريبة التي كانت تخيّم على البلاد، صور وأصوات وحركات وروائح، وتفيد بأن للبلاد أحشاءً واسعةً هي بحجم السراديب، توحي أن شيئاً ما مُقبل. أشهر قليلة من صدور الرواية سيقوم الرئيس بن علي بانقلاب “طبّي”، وتسود حقبة الحديد والنار نذيراً لكلّ الخراب المقبل الذي عرفته البلاد.
ثمّة نكران للواقع رهيب؛ السماء زرقاء والشمس دافئة والعصافير تزقزق وتونس سعيدة رغم كيد الكائدين
يقول المثل الشعبي التونسي “العجوز هازها الواد وهي تقول العام صابة”، للإشارة الى أن المرء قد يفقد القدرة على إدراك الوقائع وقراءة الأحداث كما هي، فالعجوز ترى في النهر الذي يجرفها أمارة على خير عميم وصابة وفيرة. تماماً، تصرّ السلطة ومساندوها، وشقٌّ واسع من الرأي العام (رغم انحساره أخيراً) على التأكيد أن البلاد تدرك علوّها الشاهق، وأنها تكتب تاريخاً لها وللبشرية جمعاء، بما تنجز من أشياء مبتكرة لم يسبق لها مثيل؛ السيادة الوطنية والرخاء المعمم. تكذّب الوقائع في الأرض هذه القراءة السعيدة، ففي آخر تقرير لصندوق النقد الدولي (نُشِر قبل أيّام) يتبيّن أن نسب النمو ستظلّ ضعيفةً، أي في حدود 1.4% خلال السنتَين المقبلتَين، وهي غير قادرة في هذه الحالة على إيجاد الثروة وتحسين معاش الناس، أمّا التضخّم فإنه سينخفض بشكل طفيف ويعود إلى الارتفاع بشكل منذر، من 7.2% إلى 6.1%، وهي نسبة تظلّ مرتفعةً كثيراً، غير قادرة على تحسين القدرة الشرائية للمواطنين بحكم ارتفاع غير مسبوق في تكلفة السلة الغذائية لهم؛ المواد الغذائية وأعباء الصحّة والسكن… إلخ، خصوصاً في ظلّ ركود الأجور الحقيقية رغم الزيادات التي يعمد إليها النظام في مساعٍ غير مجدية لتخفيف الفجوة بين ارتفاع أسعار المواد والخدمات والزيادات الطفيفة في الأجور، كما سيرتفع العجز التجاري بشكل لافت ما يدفع البلاد إلى الاقتراض في شكل إدمان مخيف.
عرفنا في تونس، خلال العقود الماضية، أنظمة تعاقب الناس على مجرّد رأي مخالف يعبّرون عنه علناً في خصوص المسائل السياسية تحديداً، ولكنّها كانت مع ذلك شديدة الانتباه إلى ما يقوله بعضٌ منهم على غرار الخبراء، حتى لو اختلفوا معها في مسائل غير سياسية على غرار الاقتصاد والثقافة، حتى إنها حرصت، في أحيانٍ كثيرة، على دمج هؤلاء التكنوقراط في منظومتها؛ تعيينهم مسؤولين ومستشارين، وضمّهم إلى أجهزة الخبرة لديها… إلخ. أمّا الآن، فإن مثل هؤلاء كلّهم، ومن دون فرز، يتم وصمهم بالمتآمرين والخونة، وتوجَّه إليهم التحذيرات من مغبّة “عدم اللحاق بقطار التغيير المتّجه نحو العلو الشاهق”. ثمّة نكران للواقع رهيب؛ السماء زرقاء والشمس دافئة والعصافير تزقزق وتونس سعيدة رغم كيد الكائدين. كانت الأنظمة السابقة قد أطلقت على المعارضين وصف “الصائدين في الماء العكر”، وهي في الأصل عبارة مستوحاة من التعبيرات الفرنسية، ثم يطلق أخيراً على هؤلاء عبارات خونة وجراثيم وإرهابيون، إنهم سرطان وجب استئصاله.
باعتقال المحامي أحمد صواب، نتأكد أكثر من أيّ وقت مضى أن البلاد تفقد يوماً بعد يوم صوابها
اعتُقل قبل أيام القاضي السابق، والمحامي البارز أحمد صواب، وهو صوت معتدل شارك إبّان الثورة في جُلّ معارك الحريات، وأسّس حين كان قاضياً في المحكمة الإدارية اتحاد القضاة الإداريين، ودافع عن استقلالية القضاء الإداري، ولمّا تقاعد التحق بمهنة المحاماة، وظلّ صوتاً عنيداً للدفاع عن الضحايا من دون فرز سياسي أو أيديولوجي، ولم ينخرط في جوقة المساندة، وظلّ عصياً على التطويع والتدجين. ناهض سياسات حكومة الترويكا في العديد من القضايا والمواقف. ولكن، لم يمنعه ذلك من الدفاع عن ضحاياها، وانتصب مدافعاً شرساً في قضية “التآمر على أمن الدولة”، كما كان معارضاً للانقلاب، ولم يتلعثم مطلقاً في وصف التجاوزات كلّها التي حدثت؛ حلّ المجلس الأعلى للقضاء؛ إلغاء دستور 2014… إلخ. عُرِف الرجل بأسلوبه المرح، وبسخريته السوداء واستعارته اللغوية البليغة، فضلاً عن اطلاعه العميق على كنوز الثقافة العربية وتاريخها وآدابها. أحرج السلطة، وهو الذي ظلّ يرفض كلّ أشكال الرقابة الذاتية، خصوصاً حين يتعلّق الأمر بالحقيقة، والحقّ لقد ردّد دوماً “لست حقوقياً، ولكن أنا حقّاني”، مستشهداً بما قاله عليّ بن أبي طالب في ما يتعلّق بصراع الحقّ والباطل. قال في رسالة نشرها من سجنه بالمرناقية إنه ضحيّة “عصابة لا تكاد تفكّ الخطّ، ولا تميّز بين الأدوات البلاغية وأدوات الحراثة”. يقبع المحامي أحمد صواب في السجن بتهمة الإرهاب، والحال أنه أشار بيده إلى أن القضاة تم العسف بهم، حتى “إن رقبتهم تحت السكّين”. لم يقل ذلك، لكن أشار بيده وهي تدنو من رقبته في استعارة الإشارة التي يعرفها فقهاء اللغة. كان ذلك سبباً كافياً لسجنه بتهم تتعلّق بالإرهاب.
باعتقال المحامي أحمد صواب، نتأكد أكثر من أيّ وقت مضى أن البلاد تفقد يوماً بعد يوم صوابها.