لا يختلف اثنان أن العلم لا يُوّرث ولا تصنعه قوّة السلطة ولا يخضع لشروط سياسية أكانت لدولة فقيرة أو عظمى. فالبحوث العلمية وخصوصا الطبية، وبسبب علاقتها بسلامة الإنسان، لا يمكن إخضاعها لسياسة التفوق الدولي، فعدم الشفافية العلمية وخصوصا الصحية يتحمل كلفتها أبناء البلد الذي تحاول فيه السلطة استخدام العلوم وخصوصا الطبية في مشروع نفوذها، وهذا ما يحدث الآن في روسيا ـ بوتين دون الأخذ بعين الاعتبار التكلفة المؤلمة التي سيتحملها الشعب الروسي جرّاء مغامرته.
ردة فعل المجتمعات العلمية العالمية على إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التوصل إلى لقاح مضاد لفيروس كورونا مبررة، فالحذر الطبي مشروع وذلك تخوفا من مضاعفات جانبية قد تصيب من سيستخدم هذا اللقاح قبل استكمال كافة التجارب التي تدرس أضراره الجانبية وتأثيره على صحة الإنسان العامة، فبالنسبة لمراكز البحث الطبي، لم يخضع اللقاح الروسي لرقابة كافية خلال مرحلة التجارب السريرية وهذا ما يجعله غير آمن طبيا.
من جهته، أكد مدير معهد سلامة اللقاحات في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، دانييل سالمون أن اللقاح الروسي المضاد لفيروس كورونا الجديد، المسبب لجائحة كورونا “مخيفٌ فعلا”، ووصفه بـ”الخطير”، وأضاف أن روسيا أقدمت على خطوة بالغة الخطورة حينما أعلنت جاهزية اللقاح، لأنها تجاهلت المراحل الثلاث المطلوبة خلال التجارب السريرية.
الاستهزاء العلمي العالمي من قبل المجتمعات الطبية والصحية العالمية بلقاح سبوتنيك 5 الروسي، كان واسعا، لاعتبارهم أنه علاج يعتمد على الوهم، وذلك عبر إعطاء المريض جرعة ليس لها أي تأثير حتى يتوهم أنه بات مخصصا ضد المرض، وقد اعتبرت صحيفة “نيويورك تايمز”، أن العلماء يُبدون هذه الشكوك لأن الأدوية تختلف عن اللقاحات، لأن العقارات تُمنح لأشخاص مرضى، أما اللقاحات فموجهة لأشخاص أصحاء، ولذلك، فهي تستوجب قدرا عاليا من معايير السلامة.
صفعة التشكيك بما اعتبره بوتين إنجازا علميا روسيا جاءت من الداخل، على يد الطبيب الروسي البارز في مجال الجهاز التنفسي البروفيسور ألكسندر تشوتشالين الذي قدم استقالته من لجنة الأخلاقيات الطبية في وزارة الصحة الروسية بسبب ما وصفه بانتهاك أخلاقيات مهنة الطب، رافضا استعجال الإعلان عن لقاح مضاد لكورونا دون إتمام المراحل التجريبية الثلاث.
وتشير بعض التقارير الطبية أن أطباء روس كبار من أبرزهم مدير مركز أبحاث غوماليا لعلوم الأوبئة والأحياء الدقيقة ألكسندر غينسبرغ وكبير عملاء الفيروسات في الجيش الروسي سيرغي بوريسيفيتش يتحملان مسؤولية الإعلان المستعجل عن اللقاح لأسباب سياسية تخضع لمزاج الرئيس الروسي الباحث عن انتصار علمي عالمي يفرض احترام روسيا في مجالات غير سياسية واستراتيجية.
تاريخيا هذه ليست المرة الأولى التي يفرض فيها الكرملين توجهاته السياسية على الخيارات العلمية، فقد عانت الزراعة في عهد ستالين مأساة نتيجة تبني السلطات السوفيتية للأفكار العلمية في المجال الزراعي وعلم الأحياء، حيث العالم الروسي تروفيم ليسنيكو الذي وعد ستالين بزراعة البرتقال في سيبيريا.
ففي أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي أدى تبني الدكتاتور السوفياتي جوزيف ستالين لمخططات ليسينكو التحديثية في مجال الزراعة إلى كارثة غذائية راح ضحيتها أكثر من 7 ملايين فلاح روسي، بعد فشل مشاريعه الزراعية، إلا أن ستالين لم يتخل عنه وعن أفكاره، وكلفه معالجة ما أصاب القطاع الزراعي من كوارث وفقا لما يراه مناسبا لأفكاره العلمية الجديدة التي تناسب ستالين أيديولوجيا.
في هذا الصدد يقول مؤلف كتاب أشباح الجوع جاسبر بيكر “أن ليسينكو روّج للفكرة الماركسية القائلة بأن البيئة وحدها تشكل النباتات والحيوانات، وأنه يمكنك إعادة تشكيلها بشكل لا نهائي تقريبا من خلال وضعها في الأوضاع الصحيحة وتعريضها للمحفزات المناسبة”، وهذا ما كانت القيادة السوفياتية ترغب في سماعه.
لا يختلف بوتين عن ستالين في طبيعتهما الاستبدادية، الأخير لم يعترض على وفاة ملايين الروس نتيجة لمغامرة علمية مرتبطة بعقيدة الدولة، أما الأول الذي لم يعثر حتى الآن على عقيدة يُعرف فيها دولته، لا يترد بتعرض أو بخداع ملايين البشر بعلاج وهمي فقط من أجل تحقيق أسبقية علمية عالمية يحتاجها لتنتشله أو تنتشل سلطته من حالة الركود العالمي الذي تعانيه.
وعليه، مرة جديدة في روسيا تتقاطع فيها أفكار علمية سيئة مع سياسيين طامحين يبحثون عن حلول سريعة وسهلة قد تؤدي إلى كوارث بشرية.
المصدر: الحرة. نت