مرافعة من أجل عدالة انتقالية سودانية

الوليد آدم مادبو

رغم وجاهة الدعوة إلى عدالة انتقالية في السودان مستوحاة من تجربة جنوب أفريقيا، لا يمكن أن يُكتفى بالاستدعاء الرمزي لهذه التجربة من دون تفكيك عناصرها وتكييفها مع السياق السوداني المأزوم، فالسؤال المركزي: من يملك اليوم شرعية إطلاق مبادرة بحجم العدالة الانتقالية؟ غياب المؤسّسات الوطنية الجامعة، وانقسام النخب، وتآكل ثقة الشارع في الفاعلين السياسيين، كلها تجعل من أي مسار عدالة انتقالية محفوفاً بخطر الاختطاف أو التوظيف الفئوي.

ولهذا؛ لا بدّ من استحضار تجارب أخرى لا لمجرّد المقارنة، بل لاستخلاص عناصر النجاح والإخفاق: في رواندا، على سبيل المثال، لعب القضاء الشعبي دوراً في إعادة تشكيل الروح الجماعية، لكنه أغفل أسئلة العدالة السياسية والاجتماعية. وفي كولومبيا، ساهم الاتفاق مع “الفارك” في تقليل العنف، لكنه اصطدم بعدم رضا قطاعات شعبية عن “تنازلات غير كافية”، بينما في تونس، انتهت تجربة هيئة الحقيقة والكرامة إلى نتائج محدودة، بسبب ضعف الإرادة السياسية، ما يعلّمنا أن وجود هيئة لا يكفي ما لم تُسند بشرعية اجتماعية واسعة، وأطر قانونية محمية، وإرادة إصلاحية واضحة.

يُستخلص من هذه التجارب درسٌ مهمّ: ليست العدالة الانتقالية مساراً قانونياً فحسب، بل عقد اجتماعي جديد، يتطلب شرعية شعبية، وتمثيلاً تعدّدياً، وإرادة صادقة. ولذا؛ لا يكمن التحدّي في السودان في إنشاء هيئة أو لجنة فحسب، بل في ضمان شفافيّتها، وتحصينها من التوظيف الفئوي، وجعلها تعبيراً عن وجدان جماعي، لا إرادة فصيل سياسي.

لا حاجة في السودان إلى عدالة تُستخدم سلاحاً انتقائياً، ولا إلى مصالحة تُفرض بغير اعتراف، بل إلى عدالة تحقّق التوازن الأخلاقي والسياسي، من خلال إعادة توزيع المعنى والثقة، قبل الثروة والسلطة. ما يُحتاج إليه عدالة انتقالية سودانية الأصل، متعدّدة الأصوات، ضامنة للكرامة لا مُكرّسة للغلبة، عدالة تؤسّس لسردية وطنية واحدة، تحوّل المأساة إلى ذاكرة جامعة، وتحرّر المستقبل من سطوة المظلومية العمياء أو الاستعلاء الأجوف.

لم يكن بمقدور أي بلد أن يخترق الصفّ الوطني، لو لم تكن هناك فراغاتٌ في الجدار، نتوءات في الوعي، وتشقّقات في نسيج الكرامة

هناك تشابه في البنية الاجتماعية المعقدة بين السودان ورواندا من حيث تداخل الهويات العرقية والدينية الذي أدّى إلى نزاعات دموية؛ هناك تشابه في مركزية الدولة وتاريخ الانقلابات بين السودان وتجربة تشيلي بعد بينوشيه أو إندونيسيا بعد سوهارتو، إذ واجهت الدولة تحدّيات في إعادة الثقة بين المؤسّسة العسكرية والمجتمع، وما شهدته البلاد من انتقالات ديمقراطية معقدة، كما يوجد تشابه في عمق الجروح والانقسامات الإثنية بين السودان وجنوب أفريقيا أو كولومبيا، إذ جرى تحويل الصراع من حالة انتقامية إلى مشروع وطني، عبر آليات للعدالة الانتقالية توازن بين المساءلة والمصالحة.

لا تبدأ إعادة بناء السودان من محاكمات شعاراتية، بل من مكاشفة صريحة مع الذات: لقد أخطأنا حين اخترنا التنازع على السلطة، بدل التشارك في المسؤولية، وأخطأنا حين قدّمنا الولاء الحزبي أو الجهوي على الولاء الوطني، وأخطأنا بل أجرمنا حين جعلنا الثورة سوقاً للمقايضة، والسياسة مجرّد تفاوض سطحي، والدين أداة للقمع وليس مظلة للعدالة. أخطأنا حين ظننا أن الانتماء للمركز صكّ نجاة، وأن الهامش مجرّد فائض سكاني يمكن تدجينه. أخطأنا حين أنكرنا على الآخرين إنسانيتهم، فخسرنا إنسانيتنا في الطريق. ولن نستعيد الوطن ما لم نعترف بأخطائنا، إذا لم يكن ذلك بدوافع قِيَميّة فليكُن بدوافع مصلحية، فالاعتراف بالمسؤولية الجماعية لا يُعد ترفاً أخلاقيّاً، بل هو شرط لازم لاستعادة التوازن الوطني، فما وصلنا إليه من انهيار لم يكن وليد لحظة خارجية، بل نتيجة تراكماتٍ داخلية من العجز، والخذلان، والتقاعس عن إنصاف المظلومين، وعن الانتصار للقيم التي تحفظ تماسك المجتمعات وتمنع تغوّل السلطة أو تفكك الدولة.

لا ننجو إلّا حين نصغي لصوت الضمير لا ضجيج الشعارات، وحين نقاوم الإغراء ونرفض الاصطفاف الأعمى

لم يكن بمقدور أي بلد أن يخترق صفّنا الوطني، لو لم تكن هناك فراغاتٌ في الجدار، نتوءات في الوعي، وتشقّقات في نسيج الكرامة جعلتنا نفقد الثقة في أنفسنا ونتعامل مع الحليف التنموي على أساس أنه عدو وهمي (التعبير بتصرف لسارة الحوسني)، أو أن نتوّهم الصداقة مع غريم أزلي وعدو استراتيجي. كان والدي الذي أعتبره من حكماء السياسة السودانية وأعمدتها الوطنية، كثيراً ما يقول لي: لا تتجلى براعة السياسي يا بُني في قوله إننا مستهدفون بل في تجنيب شعبه الاستهداف، ولأن الوطن ليس جغرافية نرثها، بل معنى نصوغه بأفعالنا وصدق مقاصدنا، فإننا لا ننجو إلّا حين نصغي لصوت الضمير لا ضجيج الشعارات، وحين نقاوم الإغراء ونرفض الاصطفاف الأعمى، وحين نستنكر دعوات الإقصاء: لا مدنيّ يُقصي العسكري، ولا عسكريّ يحتقر المدني، بل معادلة رشيدة تُقيم ميزان الوطن على ساقَين؛ القوة المنضبطة والحكمة المستنيرة.

ورغم أن المرافعة الأخلاقية هذه تظلّ ضرورية، فإن السودانيين بحاجة إلى ترجمة هذا الطموح إلى آلياتٍ تُصمَّم من الداخل، وتعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوداني، لا أن تُفرض بمنطق الوصاية أو الحسابات السياسية الضيقة. يحتاج هذا الأمر إلى تضافر جهود كل المختصين (قانونيين دستوريين، علماء اجتماع، أساتذة علوم سياسية، اقتصاديين، إلى آخره)، والزعماء الأهليين من قبليين ودينيين، وخبراء عالميين لهم تخصّصات شتى في حقول المعرفة السودانية المختلفة، وشباب الثورة الغيورين وكل أبناء الوطن الحادبين. نحتاج إلى إعداد جيد قبل أن ندعو الضحية والجلاد إلى قاعة الشعب، وإلى ساحة الحقيقة والمصالحة، حينها لن نحتاج عصا خارجيّة أو مبادرة أممية تُعيدنا إلى جادّة الطريق، بل إلى قلوبٍ تعترف، وعقول تُدبّر، وسواعد تتضافر، فالتاريخ لا يرحم المتقاعسين، ولا يسامح المزيّفين. فلنبدأ إذن من حيث تتلاقى القلوب لا تتصادم، ومن حيث يُغفر الماضي لا يُنسى، ومن حيث تُبنى الذاكرة المشتركة لا لتثبيت الألم، بل لتحويله إلى حكاية خلاص.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى