بعد سنوات في الظل.. “حفّار القبور” يكشف هويته وشهادته الصادمة على تلفزيون سوريا

“في أحد الأيام، فتح الضابط كيسا كانت فيه جثة امرأة تحتضن رضيعها، وقد فارقا الحياة معا. كانت آثار التعذيب واضحة على جسدها. هذا المشهد لا يفارق ذاكرتي. ومرة حملت أحد الأطفال، كان موضوعا في كرتونة. وحين رفعته، وجدت حذاءً عسكريا قد داس على جمجمته، فهُشمت نصف جمجمته، وبقي أثر النعل واضحا حتى صدره.”

يكشف”حفّار القبور” للمرة الأولى عن هويته التي أخفاها لسنوات خلف لثام، خوفاً من الملاحقة، نظراً لما يحمله من معلومات وشهادات صادمة عن المقابر الجماعية التي شارك في حفرها ودفن ضحايا النظام المخلوع فيها.

ويعد “حفّار القبور” أحد الشهود البارزين على الجرائم التي ارتكبها النظام، بعدما عمل ضمن فريق يتبع للمخابرات، تولّى فيه دفن جثامين المعتقلين والثائرين في مقابر جماعية، بعد أن قضوا تحت التعذيب في الفروع الأمنية والمستشفيات العسكرية.

وفي مقابلة خاصة مع تلفزيون سوريا، تُعرض مساء الخميس الساعة العاشرة بتوقيت دمشق، يتحدث الشاهد عن تفاصيل مرعبة عاشها خلال سنوات عمله، ويروي مشاهد لا تُنسى من داخل المقابر الجماعية، إلى جانب ما واجهه من ضغوط نفسية وتهديدات أمنية.

كما يستعرض شهادته التي قدّمها أمام الكونغرس الأميركي في حزيران 2022، والتي أسهمت في تعزيز الجهود الدولية لفرض عقوبات على النظام المخلوع.

كيف بدأ كل شيء؟

كان محمد عفيف نايفة موظفاً إدارياً في بلدية دمشق قبل اندلاع الثورة السورية عام 2011. لكن حياته انقلبت حين زاره ضباط أمنيون في مكتبه وأجبروه على الانضمام إلى فريق مدني من العاملين الحكوميين لدفن جثث الضحايا. يقول نايفة: “من المعروف أنه حين يطلب النظام شيئاً، لا يمكنك أن ترفض”.

ومنذ تلك اللحظة، وجد نفسه مشاركاً في عمليات دفن جماعي امتدت من عام 2011 حتى 2018، قبل أن يتمكن من الفرار إلى أوروبا، حيث التحق بعائلته وبدأ بالكشف عن جرائم النظام من خلال تقديم شهاداته أمام محكمة كوبلنز الألمانية، التي نظرت في جرائم ضد الإنسانية ارتكبها ضباط الأسد. وخلال جلسات الاستماع أكد نايفة أن عمليات الدفن الجماعي ما تزال مستمرة حتى بعد مغادرته، وأنه يعرف مواقع بعضها.

“حفّار القبور” يدلي بشهادته وهو متنكر أمام محكمة كوبلنز

شهادات صادمة في الكونغرس الأميركي

في أول ظهور علني له، أدلى “حفّار القبور” بشهادته أمام الكونغرس الأميركي، مرتدياً ملابس سوداء بالكامل لإخفاء هويته. وقال خلال الجلسات: “كانت تصل إلى الموقع ثلاث شاحنات أسبوعياً أو مرتين في الأسبوع، تحمل ما بين 300 و600 جثة لضحايا التعذيب والقصف والذبح”.

وأضاف: “كذلك كانت تصل ثلاث أو أربع شاحنات صغيرة محمّلة بـ30 إلى 40 جثة لمدنيين أُعدموا في سجن صيدنايا، للتخلص منهم بأبشع الطرق وحشية”.

المدير التنفيذي للمنظمة السورية للطوارئ معاذ مصطفى يدلي بشهادة “حفار القبور” أمام مجلس الشيوخ الأميركي إلى جانب – 8 من حزيران 2022

توثيق مواقع المقابر الجماعية بدقة وكشف عن المسؤولين عنها

وثّق نايفة بدقة مواقع عدد من المقابر الجماعية ضمن فيلمه الوثائقي الذي عرض على قناة “الجزيرة”، من بينها مقبرة الفرقة الرابعة الواقعة على بُعد نحو 22 كيلومتراً من العاصمة دمشق، ومقبرة مطار مرج السلطان التابعة للمخابرات الجوية.
وكذلك رصد نايفة أيضاً مقابر أخرى، أبرزها مقبرة نجها الواقعة خلف المقبرة المدنية في ريف دمشق، ومقبرة القطيفة التي تبعد نحو 50 كيلومتراً عن العاصمة.

وأسهم نايفة في الكشف عن أسماء عدد من الضباط المتورطين في عمليات الإعدام ودفن الجثث، من بينهم مدير الخدمات الطبية، اللواء الطبيب عمار سليمان، الذي يرتبط بشكل مباشر مع رئيس النظام المخلوع بشار الأسد، إلى جانب العميد مازن سمندر والعميد أيمن الحسن، اللذين تولّيا بشكل مباشر مهام جمع الجثث ونقلها إلى مواقع الدفن.

دفن الجثث في مقابر جماعية تحت تهديد السلاح

في إحدى شهاداته، روى نايفة حادثة مروعة حين تحرك أحد الضحايا داخل الشاحنة، ما دلّ على أنه لا يزال على قيد الحياة. أحد العمال بدأ بالبكاء وتوسل لإنقاذه.

لكن ضابط المخابرات المشرف أمر سائق الجرافة الموجود في الموقع بدعس الضحية فوراً، ويؤكد نافعة: “السائق لم يتردد، وإلا لكان التالي. أما العامل الذي بكى، فلم نره مجدداً منذ ذلك اليوم”.

ويضيف: “كانت الجثث تُنقل في شاحنات مبرّدة، وتُصنّف بأرقام ورموز بدلاً من الأسماء أو أسماء الفروع الأمنية التي احتجزتهم، وكانت معظمها في حالة تعفن وتشوه شديد، وبينها جثث لأطفال. كل ذلك جرى بتنسيق مباشر مع الفروع الأمنية، التي كانت تسلّم الجثث بعد أن يفارق أصحابها الحياة تحت وطأة التعذيب”.

شهادات دفعت العالم للتحرّك

شكلت شهادات نايفة، إلى جانب تسريبات مصورة أخرى مثل صور “قيصر” (المساعد أول فريد المذهان، رئيس قلم الأدلة القضائية بالشرطة العسكرية في دمشق)، نقطة تحول في وعي المجتمع الدولي إزاء جرائم نظام الأسد. وأسهمت في دفع مشرعين أميركيين وأوروبيين إلى اتخاذ خطوات لمحاسبة النظام، مثل إصدار قانون “قيصر” الذي فرض عقوبات اقتصادية واسعة.

وكان نايفة قد دعا، خلال المؤتمر في هارفرد، إلى رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، والتي أسهمت شهاداته بفرضها على النظام المخلوع بسبب جرائمه، لافتاً إلى أن “الشعب السوري لا يزال يعاني من هذه العقوبات، رغم انقضاء 4 أشهر على سقوط النظام”.

المقابر الجماعية.. ملف شائك بانتظار العدالة

لا يزال ملف المقابر الجماعية في سوريا يشكل تحدياً قانونياً وإنسانياً بالغ التعقيد، يتطلب حلولاً تستند إلى القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان. فمع استمرار كشف المزيد من هذه المقابر، تتزايد الحاجة إلى آليات دولية للتوثيق والمحاسبة.

ووفقاً لتقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يُقدّر عدد المعتقلين والمختفين قسراً في سوريا منذ عام 2011 وحتى نهاية عام 2024 بنحو 136,614 شخصاً، بينهم أكثر من 113 ألفاً لا يزال مصيرهم مجهولاً.

 

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. للمرة الأولى يكشف”حفّار القبور” عن هويته التي أخفاها لسنوات خلف لثام، خوفاً من ملاحقة نظام طاغية الشام ومؤيديه، لقد قدم معلومات وشهادات صادمة عن المقابر الجماعية التي شارك في حفرها ودفن ضحايا النظام البائد فيها. لقد شكلت شهاداته بالإضافة لتسريبات مصورة أخرى مثل صور “قيصر” نقطة تحول في وعي المجتمع الدولي إزاء جرائم نظام الطاغية.

اترك رداً على khatib yehya إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى