ابتسام التريسي روائية سورية متميزة، تنتمي للثورة السورية، قرأت لها أغلب انتاجها الروائي، وهذه الرواية من أوائل ما نشرته منذ عقد ونصف.
ذاكرة الرماد، رواية تعتمد أسلوب المتكلم ويتناوب على السرد شخصيتان رئيسيتان ندى وخالد. كما أنها لا تعتمد خط زمني متتابع، بل تنتقل بالزمان والمكان حيث بوح أبطالها، لتكتمل صورة الرواية في ختامها.
تبدأ الرواية من تبادل سرد كل من خالد وندى عن لحظة تعارفهما. ندى فتاة سورية تسكن في دمشق، درست وأصبحت صحفية. ها هي تذهب بمهمة صحفية إلى لبنان، وهناك تلتقي بخالد الشاب الفلسطيني، خالد منتمي للثورة الفلسطينية ويعمل في صفوف الفدائيين فنانا تشكيليا، يحول قضيته الى رسومات تلاحق قضيته و تنيرها. التقت ندى وخالد عند جسر الكولا وهي في طريقها إلى مخيم صبرا، المخيم الذي كان ضحية مذبحة أودت بحياة المئات ممن تواجدوا به على يد الصهاينة والمليشيات التابعة له في لبنان، كان ذلك في ثمانينات القرن الماضي. يلتقيان ثانية في صبرا في بيت صديق مشترك، ومازالت المذبحة طازجة، الجثث متناثرة الأطفال والنساء والكهول متناثرين قتلى ومذبوحين و مبتورة أعضائهم في أركان المخيم الذي سكنه غراب القتل لوقت أزهق به أرواح سكّانه ورحل. كان اللقاء بينهما بمثابة حالة إنقاذ لكل منهما من جحيم العيش بهول ما يرونه، لقد لاذ كل منهما بالآخر، تجولا في المخيم شاهدا ما حصل، كان في ذاتيهما تساؤل؛ لماذا مازلنا يُقتل الفلسطينيون حيث وجدوا ؟!!. كان هذا اللقاء بداية علاقة حميمية بين ندى وخالد وتتابعت لقاءاتهما وأصبح حبا يسكنهما، تطور ليكون بينهما تواصل جسدي حميمي، استمر ذلك حتى عادت ندى إلى سورية حيث عملها في الصحيفة. ندى التي تغيرت حياتها منذ لحظة لقائها مع خالد في صبرا المجزرة، وتبدلت حياتها ليكون لها حبيبا يسكن وجدانها ولا يفارق مخيلتها، تسترجع اللقاءات بينهما، وتأمل أن تراه ثانية. كانت متميزة في عملها، وكان لها زميل يميل إليها، وكانت تتقبله، على أنه احتمال زوج للمستقبل، لكنها بعد لقائها بخالد لم تعد تتقبل أن يحصل ذلك. خالد الذي لم يعدها بشيء، إنه الفلسطيني المسكون بعذابات فلسطين وشعبها عبر عقود، كتوم لا يتحدث عن عمله ودوره، يقول إنه مع الثورة، وأنه لا يريد أن يربط أحدا بمصيره، كإشارة لندى بأن لا تفكر بالارتباط به لأنه كثائر مشروع شهيد دوما، وهي لا تقبل بذلك فكل الثوار لهم من يحبونهم وكونوا عائلات وإن استشهدوا بعد حين. كان يؤكد لها أن علاقتهما واحة في صحراء حياته، ومحطة على الطريق ولكل مساره، كانت تصر أن القدر جمعهما في أقسى ظرف بين أجساد شهداء مجزرة صبرا، ويجب أن لا تنفصم هذه العلاقة. لكن حسابات خالد كانت تختلف عن حسابات ندى. خالد يعرف ما يعيش ويعرف أنه والموت على موعد دائم. مهدد دوما من أعداء كثيرين، موقفه الثوري والنقدي من الكل جعله مستهدف منهم كلهم. هو أيضا ممن لجؤوا إلى سورية وفيها كبر وترعرع وكان من الثوار، وأنه لم يحتمل النظام السوري، وكذلك لم يحتمله النظام، وأصبح مطلوبا لكونه ترك جيش النظام في خدمته العسكرية كفلسطيني في الجيش السوري، هذا غير مواقفه النقدية التي عبر عنها برسوماته، هرب إلى لبنان، وهناك التحق بالعمل الفدائي الفلسطيني، استمر موقفه النقدي من كل ما يحصل من المسؤولين في الثورة، وسرعان ما ظهر من يريد كتم صوته وريشته، وأصبح مطاردا داخل الثورة ومهددا دائما بالتصفية. كانت سحاب رفيقة له في العمل الفدائي، كانت واحته في أجواء الثورة وسلبيات القادة وأخطائهم، كانت تخبره أولا بأول بما يحاك ضده و تنذره وتنبّهه، وتدفعه للحذر واليقظة فهو مستهدف بالتصفية دوما. كانت رفيقته وحبيبته أيضا. في هذه الأجواء كان لقاء خالد بندى وحصل بينهما الحب المستحيل، أخبر خالد ندى بأنه لا يستطيع الارتباط بها لأنه مهدد بالموت وقد يغادر لبنان وأنه يتنقل دوما في مواقع الثوار في بيروت وفي الجنوب اللبناني. أما ندى فقد كانت تصر أن حبهما يجب أن ينتصر ويجب أن يتوج بالزواج وكان خالد يرفض أن يربط مصيرها به. عادت ندى إلى سورية وهي تخطط للعودة ثانية ودائما إلى لبنان للّقاء بخالد. زميلها بالعمل مدحت أعلن محبته لها وطلب الزواج منها، قبل لقائها بخالد كان هذا ماتتمناه أما الآن فقد سكن خالد قلبها وروحها، اعتذرت من زميلها وخيبت أمله، تفاجأت عائلتها بموقفها، وقبلوا به على مضض، لكن هل كانت متيقنة بأنها ستلتقي بخالد مجددا، أو سيكون لهذه العلاقة مستقبل؛ الزواج مثل كل حب يريد أن يتحول لحياة مستمرة، خالد لم يقدم أي مؤشر، وكل الوقت يوضح لها بأنه عابر ومشروع شهيد ومستهدف من أطراف كثيرة، النظام السوري وبعض رفاق السلاح الفلسطيني، إنه متمرد وخارج السرب ولا يترك أحدا دون نقد بحيث جعل حياته مهددة كل الوقت. اكتفت ندى من علاقتها بخالد بزيارات متتالية الى بيروت، تبحث عنه في صبرا او الجنوب وتلتقي به وتشبع نفسها وروحها منه، وتعود ثانية على أمل لقاء جديد قريب. لكن أهلها لم يقبلوا رفضها للزواج ممن يتقدم لخطبتها، ولم تفصح عن بديل لا يعلن عن نفسه بالزواج منها، وكانت تناور وتتهرب، لكنها وقعت في فخ حاجة الأهل ، فقد جاءها خاطب ثري ، وقادر على حل مشكلات العائلة كلها، ويحقق لها كل طموحاتها كفتاة على أبواب زواج، وافقت مضطرة وبقيت تناور لعل خالد يغير موقفه مع الزمن، وتقترن به.
أما خالد فقد غاب كثيرا ودائما من حياة ندى. أدت ملاحقته من رفاق الدرب واحتمال التصفية، إلى سفره الى الكويت هروبا من التهديد الأمني على حياته، وبحثا عن فرصة عمل مستثمرا رسومه وقدراته الفنية. في الكويت كانت له علاقات وطيدة مع بعض كتابها وفنانيها، كما تلقى طعنة انسانية من التعامل المتعجرف من مديرته المباشرة، كانت الكويت بجوها الحار وصحرائها الممتدة ومعالم الانفتاح الثقافي والسياسي مكانا مقبولا لخالد، لكن متغيرا قاسيا جاء مع الاجتياح العراقي للكويت، مع ما جرّه من كارثة انسانية على شعب الكويت، ونتائج الحرب والصراع وتدخل أمريكا والتحالف الدولي وتحرير الكويت، ودعم منظمة التحرير الفلسطينية للعراق في اجتياحها للكويت، انعكس بعد تحريرها على الفلسطينيين المتواجدين هناك وهم كثر، بكارثة انسانية أدّت الى طردهم واضطّهادهم ودخولهم في لجوء جديد مأساوي، انعكس ذلك على خالد فوجد نفسه متجها إلى اسبانيا، وهناك التقى برندة التي ستكون حبيبة جديدة له، وستنجب منه طفلا، سيعيش بعض حياته متنقلا في اسبانيا بين المعالم التاريخية للأندلس، غرناطة وإشبيلية، سيلتقي هناك بالفنان التشكيلي العراقي فائق حسين الذي كان غادر العراق منذ عقود، لكنه ما زال مسكونا ببلاده والتي يسترجعها بفنّه دائما، تتوسع الرواية بالحديث عن فائق، طفولته وفقره ويتمه، و حياته في إسبانيا، ومعاناته الدائمة، وحنينه للعراق والناصرية مدينته وعجزه عن العودة، مرضه، توحده.
تتجدد محنة خالد عندما قرر العودة مع زوجته رندة وابنه منها الى بلادها المغرب، سيفاجأ بدخولها و ابنها عبر الحدود ومنعه من الدخول، إنه الفلسطيني المرفوض مجدداً. نتركه في هذه المحنة. ونوضح أن ندى لم تكن تغادر خيال خالد، لكنها كانت تبتعد عن نفسه بمقدار توغله بحياته مع الآخرين والأخريات.
أما ندى فقد استمرت تتردد على لبنان وتبحث عنه، عبر سنوات طويلة، ووصل بحثها إلى الجنوب اللبناني حيث كان خالد ابن ندى وخالد. في مخيمات الجنوب في قانا بين أهله وناسه، وحيث وقع الاعتداء الصهيوني على الفلسطينيين في مخيمهم في قانا، هربوا و اختبؤوا في مواقع قوات الطوارئ الدولية، لكن العدو الصهيوني قصفهم حيث هم، وكانت مجزرة أودت بحياة الجميع النساء والأطفال والعجزة، وراح ضحيتها مئات من الفلسطينيين العزل، الذين ذنبهم الوحيد أنهم فلسطينيون، كان خالد بينهم واستشهد معهم، هذا ما عرفته ندى وهي تبحث عنه هناك في قانا في الجنوب اللبناني.
هنا تنتهي الرواية.
وفي تحليلها نقول:
إننا أمام عمل روائي مدروس بدقة، من الكاتبة إبتسام تريسي وهذا ليس غريبا عنها، حيث تتابع الشأن العام الفلسطيني عبر نصف قرن تقريبا، من خلال أبطال روايتها، كما تتابع الجانب الانساني بكل أبعاده، النشأة الظروف الحياتية، الوعي والانتماء والقضية الفلسطينية بصفتها تسكن وجدان أبنائها. الحب بصفته المحرك الوجودي الاهم للإنسان، حاضر بكل قوة، بحيث يظهر الشأن العام – على أهميته – وكأنه هامش فرعي، نرصد القضية الفلسطينية، نضال وثورة معاشة عبر أشخاصها، نرصد التلميح لدور الانظمة الضار بالثورة ورجالها، ونرصد أزمة الثورة في داخلها، كما كل ثورة في التاريخ.
٠ نجد في الرواية تلميح لشخصية الثائر خالد الذي يناضل بأدوار مختلفة ومنها الرسم التشكيلي بالأبيض والاسود، ويشار إلى حنظلة وهو رمز اخترعه الفنان ناجي العلي الذي كان برسومه مناضلا أقضّ مضجع الأنظمة وقادة الثورة الفلسطينية والكيان الصهيوني بحيث قتل غيلة والكل سعيد بكسر قلمه الثوري الأصيل، لقد ظهر أن هناك تطابق بين شخصية خالد وناجي العلي، إلى حد ما، ولو أن مآلات حياتهما لم تكن نفسها، حيث استشهد ناجي العلي غيلة، وبقي خالد مشردا ومطاردا كفلسطيني في كل بلاد العالم. وما التوسع في حياة خالد في الكويت وفي أسبانيا والمغرب ومآل قيادة الثورة الفلسطينية في تونس بعد طرد الثورة من بيروت ولبنان في الثمانينات، وكيف كان الفلسطينيين ضحايا السياسة، وعاشوا نكبات جديدة مؤلمة.
وهكذا نجد الكاتبة قد خلدت ذكرى الشهيد والمناضل الحر ناجي العلي في الرواية، حسب تاريخ نشرها وأنها نشرت في سورية، كانت التورية مطلوبة، وكنّا كقراء نفهم بالإشارة.
تعيدنا أجواء التوصيف القاسي لواقع مجازر صبرا وبعدها قانا وواقع حياة الفلسطينيين وبعد مضي حوالي العقد والنصف على نشر الرواية، ونحن في السنة التاسعة للثورة السورية، نرى أن التوصيف والمتابعة والتصوير لما عاشه الفلسطينيين عبر تاريخهم وفي المجازر التي عاشوها، نجد صورتنا وواقعنا نحن السوريون الآن، ونحسّ لوهلة أنها -عبر الرواية- تتحدث عن مجازر حمص والبيضا وبانياس و داريا والمعضمية وإدلب وكل المدن السورية. إن الرواية تجعلنا ندرك توحد اعداء الشعوب من المحتلين والأنظمة المستبدة القمعية المجرمة، في أعمالهم وهدرهم لحياة الناس وظلمهم، وأنهم مستعدون أن يقتلوا الشعوب و يشردوهم ويدمروا البلاد، ليحافظوا على وجودهم، ك مستعمرين و حكام مستبدين.
أخيرا: نحن نحتاج هكذا أدب يعيد إحياء ماضينا بكل آلامه وأفراحه ليكون حاضرا دوما في ذاتنا وليكون دروسا للمستقبل، ولنعيد إحياء ما عشناه للأجيال القادمة، ولنعرف كيف نصنع حريتنا وكرامتنا ونحقق العدل في حياتنا، والاهم أن نعرف كيف نحافظ على كل ذلك.