صعود العصبية العربية السنية

معقل زهور عدي

حتى الأمس القريب كانت الأقليات وحدها في سورية تتمتع بعصبية داخلية تزيد أو تنقص لكنها تظل فاعلة وراء المشاعر الوطنية أو القومية العربية أو الايديولوجيات في زمن الايديولوجيات الثورية بينما كانت الأكثرية العربية السنية تشكل كتلة تكاد لاتشعر بعصبيتها الطائفية تتوزعها الاتجاهات الايديولوجية والسياسية بما في ذلك الاسلام السياسي , صحيح أن الجميع كانوا منخرطين في السياسة في الخمسينات والستينات من القرن الماضي بحيث ظهر وكأن العصيات الطائفية قد تلاشت لكن ذلك لم يكن حقيقيا كما أثبتت الوقائع فيما بعد فقد استطاعت إحدى العصببيات الطائفية القفز نحو السلطة مستفيدة من عدم وجود عصبية عند الغالبية العربية السنية وانقساماتها الداخلية المزمنة والمتعددة وفق الاتجاهات الفكرية- السياسية التي سادت في فترة مابعد الاستقلال.

لكن ماحدث بعد ذلك كان دراماتيكا, فمن خلال ضعف التجربة الديمقراطية وصعود الفكر الاشتراكي الذي ترافق مع تبرير الحكم الديكتاتوري ” ديكتاتورية البروليتاريا والعنف الثوري ” والترجمة الرديئة لتلك المفاهيم شهدنا ممارسة أقسى درجات العنف المستمد من المفاهيم السابقة من أجل السيطرة على الدولة وتأبيد تلك الهيمنة .

وككل عصبية طائفية فقد أنتجت نخبتها السياسية الخاصة والتي تحولت إلى نخبة اوليغارشية أزاحت العصبيات الطائفية وغير الطائفية الأخرى كما أزاحت دون عناء كبير الأغلبية العربية السنية عن مفاصل الحكم والتي لم تكن تمتلك عصبيتها حتى ذلك التاريخ .

وفي الحقيقة فقد برهنت العصبية الطائفية العلوية عن أكبر قدر من التماسك الداخلي الذي لم يكن بحاجة حتى للتنظيم من أجل استخدامه في الوصول للسلطة أو الاحتفاظ بها على حد سواء .

لكن الفترة الطويلة من الحكم الاستبدادي الذي ازداد مع الزمن في استخدام القوة ضد المجتمع بقدر ما ازداد ابتعادا عنه , وانتشار الفساد إلى حد غير مسبوق , وإزاحة البورجوازية التجارية المدنية عن مواقعها المالية والاقتصادية المتميزة داخل الدولة , وفرض الأتاوات الباهظة عليها وعلى البورجوازية الصناعية إضافة لانتهاء عصر الايديولوجيات وانهيار المعسكر الاشتراكي والفشل في احراز أي انجاز يبرر تقمص القضية الفلسطينية واستخدامها كغطاء سياسي , كل ذلك أسفر عن انكشاف العصبية الطائفية في مواجهة الأغلبية السنية .

وحين بدأت التحركات الشعبية في 2011 كانت العصبية الطائفية قد لجأت مسبقا للخارج الايراني في مواجهة معركة كانت متوقعة مع الغالبية السنية .

بالنسبة للأقليات الأخرى فقد كانت المسألة محيرة بعض الشيء , فهي من جهة لم تكن مرتاحة للاستبداد والفساد وتفكك الدولة وكانت تطمح لتغييرلايمس مكانتها في المجتمع لكنها ومع ازدياد الطابع الاسلامي للمواجهة مع النظام السياسي فضلت الابتعاد قليلا والاكتفاء بالتعاطف مع غالبية الشعب في محنته الانسانية خلال اربعة عشر عاما .

خلال خمسين عاما وخصوصا خلال الأعوام الأربعةعشر الماضية , تكونت عصبية جديدة في سورية في رحم الاضطهاد غير المسبوق والذي ضم القتل على نطاق واسع ( حوالي مليون نسمة ) والسجن لمئات الألوف الذين قتل منهم الكثير خلال التعذيب ودفنوا بمقابر جماعية أو أحرقت وأذيبت جثثهم بعد أن كبست بالمكابس , ومنحت أجهزة الأمن صلاحيات مطلقة في التصرف بالبلاد والعباد سرقة ونهبا وابتزازا بطريقة لم تعهدها سورية في كل تاريخها . وتم تهجير مايزيد عن نصف سكان سورية إلى أصقاع الأرض .

صحيح أن هذه العصبية وجدت كرد فعل أثناء حكم الأسدين , لكنها سرعان ماتحولت من عصبية سلبية إلى عصبية ايجابية فاعلة عند سقوط النظام البائد .

ويمكن لأي مراقب محايد اليوم أن يلاحظ تلك العصبية دون جهد كبير , وبكلام آخر لقد فقد العرب السنة الاحساس بالأمان الذي كان السر وراء افتقادهم للعصبية , وخلال السنوات الرهيبة السابقة فهموا أنهم معرضون للابادة تماما كما تشعر الأقليات في هواجسها مهما كانت الأجواء مريحة والسماء صافية , وأن عليهم أن يتصرفوا بعد الآن ليس كأغلبية مطمئنة نائمة على وسادة من حرير , ولكن كأقلية كبيرة بكل ماتحمله الأقليات من مشاعر يدفعها لانتاج عصبياتها الخاصة .

مشكلة بعض النخب السورية تكمن في عدم إدراكها لعمق الشعور بخطر الابادة الذي داهم الأغلبية العربية السنية , وبقاء تحليلاتها مرتهنة لسردية غاية في السطحية وازدراء المأساة السورية أو التقليل من حجمها , ويمكن لمس تلك السردية في تحويل الأمر لمجرد استبداد للنظام السابق بمواجهة قوى اسلامية متطرفة بحيث أصبح متاحا القفز لوضعه على كفتي ميزان مقابل نقد النظام الحالي .

انعدام الحساسية لحجم وعمق الهولوكست السوري يجعل المثقف السوري في واد والواقع في واد آخر , وبالتالي يزيد في إفساح الطريق أمام التيارات المتشددة .

بنموالعصبية العربية السنية أصبحت فرصة أي أقلية في إعادة سيرورة النظام الأسدي غير قابلة للتحقق في الواقع , لكن الثمن الذي لاينبغي نسيانه أيضا هو في تحول الأغلبية العربية السنية من حاضنة وطنية مطلقة إلى حاضنة وطنية نسبية , وبالتالي طرح الاشكالية الطائفية على مستوى آخر مختلف عما كان عليه الحال في سورية منذ تكون الكيان السوري الأول بين الأعوام 1918-1920 .

أعتقد أن الأمر قد أصبح بحاجة لعقد اجتماعي جديد , ليس عقدا على الورق فقط , ولكنه عقد مفهوم ومقبول لدى المجتمع , أي عقد مؤسس على توافق وطني حقيقي ليست السلطة فيه سوى وسيط محايد أو هكذا ينبغي أن تكون .

المصدر: صفحة معقل زهور عدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى