
شكّلت المواجهات المسلّحة مع المشروع الصهيوني منعطفاتٍ كبرى في مسار النظام العربي الرسمي، الذي تأسّس بالتوازي مع قيام جامعة الدول العربية عام 1945. يصدُق هذا على الحروب التي خاضتها الجيوش العربية أعوام 1948 و1956 و1967 و1973، مثلما يصدُق على الحرب التي تخوضها فصائل المقاومة المسلّحة حالياً نيابةً عن هذه الجيوش التي تخلّت عن استخدام السلاح في مواجهة المشروع الصهيوني، منذ قرّر الرئيس المصري الراحل أنور السادات أن حرب أكتوبر (1973) “ينبغي أن تكون آخر الحروب”. وبوسع كلّ باحث مدقّق لما جرى، في كلّ واحدةٍ من هذه الجولات العسكرية، أن يلاحظ أن النظام العربي الرسمي كان يخرُج في نهايتها مختلفاً عمّا كان عليه في بدايتها. فقد أدّت حرب 1948 إلى تغييرات عميقة في مسار هذا النظام العربي من خلال تنامي الدور السياسي للجيوش في عدة دول عربية، وازدياد حالة عدم الاستقرار في المنطقة بسبب رفض إسرائيل عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، وإصرارها على عدم سحب قواتها إلى الحدود التي رُسمت للدولة اليهودية بموجب قرار التقسيم، الذي أصدرته الجمعية العامة المتحدة عام 1947. وبينما أدّت حرب 1956، التي حقّقت فيها مصر انتصاراً سياسياً حاسماً، رغم هزيمتها العسكرية، إلى تحوّل النظام الإقليمي العربي نظاماً راديكالياً يقوده جمال عبد الناصر، ويهيمن عليه التيّار القومي. تسببت حرب 1967، التي منيت فيها جيوش ثلاث دول عربية بهزيمة ساحقة، في بروز نظام عربي اتسم بتراجع الدور المصري، وانتكاس التيّار العروبي، وصعود الإسلام السياسي، وتمدّد النفوذ الخليجي، وبزوغ نهج أكثر براغماتية في التعامل مع قضايا الصراع العربي الإسرائيلي (جسّده تبنّي شعار “إزالة آثار العدوان” بدلاً من شعار “استعادة الحقوق المغتصبة”). أمّا حرب 1973 فقد انطوت على مفارقة مذهلة، جسّدها تناقض واضح بين ما بشّرت به البدايات وما أفضت إليه النهايات. ففي بداية هذه الحرب، أخذ الجيشان المصري والسوري زمام المبادرة، وحصلا على دعم غير محدود من نظام إقليمي عربي، ظلّ دعمه متماسكاً وموحّداً خلفهما بشكل لم يسبق له مثيل، وفي نهايتها أصبح هو الوسيط المعتمد بين مصر وإسرائيل في مفاوضات مهّدت الطريق أمام السادات لزيارة القدس في نوفمبر/ تشرين الثاني 1977، ثمّ لإبرام “معاهدة سلام” مع إسرائيل في مارس/ آذار 1979، ثمّ إلى تفكّك وانهيار النظام الرسمي العربي تدريجياً.
قلب خروج مصر المنفرد من المعادلة العسكرية للصراع الطاولة على رؤوس الجميع، وأضعف مصر والنظام العربي في الوقت نفسه، فقد أصبحت مصر من دون العالم العربي عاجزةً عن دفع الأمور نحو تسوية سلمية شاملة وعادلة للصراع، وأصبح النظام الإقليمي العربي من دون مصر عاجزاً عن الدخول في مواجهة عسكرية لاحقة ضدّ إسرائيل. وبالتالي، أصبحت حرب أكتوبر (1973) آخر الحروب بالفعل، بحكم الأمر الواقع. هذا العجز المزدوج ترك فراغاً سارعت إيران إلى ملئه بالتعاون مع قوى من داخل النظام العربي، ومناوئة له وللمشروع الصهيوني في الوقت نفسه، وهو ما يفسّر وجود أوجه اختلاف عميقة بين الحروب التي اندلعت في المنطقة قبل خروج مصر من معادلة الصراع المسلّح مع المشروع الصهيوني وبعده. فقبل هذا الخروج كانت الحروب تندلع بين جيوش نظامية عربية وجيش الكيان، أي أنها كانت حروباً نظاميةً، من ناحية، وعربية – إسرائيلية خالصة، من ناحية أخرى. أمّا بعد هذا الخروج، فقد أصبحت الحروب تندلع وتخاض بين جيش الكيان، من ناحية، و”فاعلين من غير الدول” تجسّدهم فصائل المقاومة المسلّحة، من ناحية أخرى. بل لم تعد حروباً عربية – إسرائيلية خالصة عقب دخول إيران في خطّ المواجهة المباشرة، ولذا يسمّيها بعضهم “حروب بالوكالة”. وفي البداية، أخذ هذا النوع شكل حروب محدودة تندلع في جبهة واحدة في كلّ مرّة، كالحرب التي شنّتها إسرائيل على حزب الله عام 2006 أو سلسلة الحروب التي شنّتها بعد ذلك على فصائل المقاومة الفلسطينية المسلّحة في قطاع غزة أعوام 2008 و2012 و2014 و2021، لكنّها تحوّلت، بعد عملية طوفان الأقصى، حرباً شاملةً تشارك فيها جبهات متعدّدة، بما في ذلك الجبهة الإيرانية. لذا، يمكن القول إن الحرب المستعرة حالياً في المنطقة التي بدأت مع “طوفان الأقصى”، تشكّل تحوّلاً جذرياً في أنماط المواجهات المسلّحة مع المشروع الصهيوني، فلم تعد مواجهات عربية إسرائيلية خالصة. ومع ذلك، يتوقّع أن تكون لها تأثيرات خطيرة على مستقبل النظام العربي.
يعتقد نتنياهو أنه حقّق بالفعل إنجازات ضخمة، وبات على وشك تحقيق نصر حاسم من شأنه تغيير الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة ككل
يصعُب قياس التأثيرات المحتملة لحربٍ لم تحسم بعد في مستقبل هذا النظام، لكنّها ستكون، على الأرجح، محصّلةً لما سيجري من أحداث في الساحات الإسرائيلية والفلسطينية والإيرانية والأميركية في الشهور القليلة المقبلة. أولاً، في الساحة الإسرائيلية، يعتقد نتنياهو أنه حقّق بالفعل إنجازات ضخمة، وبات على وشك تحقيق نصر حاسم من شأنه تغيير الأوضاع الجيوسياسية في المنطقة ككل. فهو يرى أنه تمكّن من إخراج حزب الله من معادلة الصراع نهائياً، وأسقط نظام بشّار الأسد، وفكّك معظم البنى العسكرية لجميع الفصائل الفلسطينية المسلّحة، ليس في غزّة وحدها، وإنما في الضفة الغربية أيضاً، وأصبحت إيران بلا نظام للدفاع الجوي الذي حُطّم في ضربة وجهّت إليه أخيراً، ولم تستطع إيران أن تردّ عليها. ولذا، لم يتبقَّ أمام نتنياهو سوى التغلّب على عقبتَين كي يتحقّق له النصر النهائي أو المطلق، الأولى، نزع سلاح حركة حماس، وترحيل قياداتها إلى الخارج، واستعادة ما بقي من المحتجزين، وكلّها أهداف باتت قابلةً للتحقيق بالقوة العسكرية المفرطة، التي حصل من ترامب أخيراً على ضوء أخضر لاستعمالها، وهو ما يفسّر انتهاكه اتفاق وقف إطلاق النار، وقراره استئناف العدوان. والثانية تدمير القدرات الإيرانية، ممثّلة في برنامجيها النووي والصاروخي. وهو ما يأمل في الحصول على مساعدة من ترامب لتحقيقه، وبعدها سيكون في وضع يتيح له إملاء كلّ شروطه التي تعكس الأجندة السياسية لأكثر الأجنحة السياسية تطرّفاً في حكومته، ألا وهي ضمّ الضفة الغربية، والتحكّم أمنياً في قطاع غزّة، وربّما إعادة احتلاله بعد تهجير سكّانه، وتطبيع العلاقات مع دول عربية وازنة، خصوصاً لبنان وسورية والسعودية. ومع ذلك، يمكن القول إن الطريق أمام نتنياهو ليس ممهّداً بالكامل لتحقيق هذه الأحلام، بسبب المعارضة الداخلية المتنامية التي قرّر أن يدخل معها في مواجهة حاسمة، خصوصاً في ظلّ إصراره على إقالة رئيس الشاباك رونين بار والمستشارة القضائية غالي بهراف ميارا.
ثانياً، في الساحة الفلسطينية، حقّقت المقاومة الفلسطينية بقيادة “حماس” إنجازات هائلة، سواء في معركة “الطوفان” ذاتها أو في ملحمة الصمود، التي طالت أكثر من 17 شهراً، ولا تزال قادرةً على مواصلة القتال والإمساك بورقة الأسرى الهامّة رغم ما قدمته من تضحيات هائلة. ولأنها باتت مُجبرةً على القتال وحدها، رغم أهمية الإسناد الذي ما زال يُقدَّم لها من جانب أنصار الله في اليمن، فقد بدأت تتعرّض لضغوط، ربّما تكون أكثر من طاقتها على الاحتمال، خصوصاً ضغوط الإبادة والتجويع والتهجير القسري التي تمارسها إسرائيل حالياً على حاضنتها الشعبية، والضغوط النفسية الناجمة عن تخاذل الشعوب والأنظمة العربية، والضغوط السياسية التي يمارسها الوسطاء، ناهيك عن الضغوط العسكرية التي تمارسها آلة الحرب الإسرائيلية حالياً. ورغم ما أظهرته “حماس” من حِنكة سياسية في إدارة ملفّ الأسرى، إلا أنها باتت مطالبة الآن بالاستسلام من دون قيد أو شرط، عبر تسليم الرهائن وإلقاء السلاح ورحيل قادتها خارج الأراضي، وهو ما لا نعتقد أنها ستقبله مطلقاً، وستفضّل مواصلة الصمود حتى النهاية.
حقّقت المقاومة الفلسطينية بقيادة “حماس” إنجازات هائلة، سواء في معركة “الطوفان” ذاتها أو في ملحمة الصمود، التي طالت أكثر من 17 شهراً
أما في الساحة الإيرانية (ثالثاً)، فتدرك طهران جيّداً أن الخناق بدأ يضيق حولها، خصوصاً بعد رسالة التهديد التي وجّهها ترامب أخيراً إلى المرشد الأعلى، التي ينذره فيها، ليس بمواصلة سياسة العقوبات القصوى فحسب، وإنما باللجوء أيضاً إلى “خيارات أخرى”، إذا لم تقبل طهران الدخول في مفاوضات تؤدّي إلى اتفاق جديد خلال شهرَين. وليس من المستبعد أن تقبل إيران بالتفاوض، خصوصاً في حال اقتصار جدول أعمال المفاوضات المقترحة على ضمان سلمية برنامجها النووي، أمّا إذا أصرّ ترامب على أن تشمل المفاوضات برامجها التسليحية، خصوصاً المتعلّقة بإنتاج الصواريخ والمسيّرات، ومطالب تتعلّق بإعادة صياغة علاقاتها الإقليمية، يعتقد على نطاق واسع أنها لن تقبل مطلقاً، ولديها أوراق قوية قابلة للاستخدام، كالاعتماد على قواها الذاتية وعلاقاتها الاستراتيجية بكلّ من الصين وروسيا. وفي جميع الأحوال، فليس من المستبعد أن يؤدّي توجيه ضربة عسكرية إلى إيران إلى المخاطرة باندلاع حرب إقليمية شاملة، وربّما حرب عالمية ثالثة.
رابعاً، في الساحة الأميركية، لم يعد المجال يتّسع لتفصيلٍ أكثر حول الخيارات المتاحة أمام ترامب إزاء ما يجري في المنطقة، أشرنا إلى بعضها سلفاً. فقد منح ترامب نتنياهو ضوءاً أخضرَ ليفعل كلّ ما يحلو له ويراه ضرورياً لمصلحة إسرائيل، ومن الواضح أنه بات يتبنّى بالكامل أجندة اليمين المتطرّف في إسرائيل. ومع ذلك، لا ينبغي أن نغفل حقيقة أن الجانب البراغماتي في شخصية ترامب قد يدفعه إلى التضحية بنتنياهو، وتفضيل التعامل مع قيادة إسرائيلية بديلة، خصوصاً إذا أحسّ ترامب أن الداخل الإسرائيلي ضاق به ذرعاً، وأصبحت سياساته لا تعرّض أرواح الأسرى المحتجزين لدى “حماس” فحسب للخطر، وإنما تعرّض المصالح الأميركية نفسها للخطر أيضاً.
الخلاصة من هذا الاستطراد أن النظام الإقليمي العربي ألغى نفسه، واستهتر بمصالح شعوبه في جولة المواجهة الحالية التي يتعرّض فيها الشعب الفلسطيني لمذابح يومية، في حين اكتفى بدور المتفرّج أو بدور الوسيط على أحسن الفروض، وحين تعامل مع “حماس”، وفصائل المقاومة الفلسطينية خصماً سياسياً وليس طرفاً مقاوماً يدافع عن القضية الفلسطينية، وعن الأمن القومي العربي، في مواجهة مشروع سياسي ديني عنصري يستهدف الهيمنة على المنطقة برمّتها. إذا هزمتْ “حماس”، أو وُجِّهت ضربةٌ قاصمةٌ لإيران، فسيكون النظام الإقليمي العربي هو أكبر الضحايا والخاسرين، وتصبح ثروة الخليج مستباحةً لكلّ من ترامب ونتنياهو.
المصدر: العربي الجديد