كانت جائحة مرض فيروس كورونا 2019 «كوفيد 19» سببا في زيادة الوعي بالعيوب الكبرى التي تشوب بنيتنا الأساسية الحضرية، وتسليط الضوء على افتقارنا للاهتمام بالكيفية التي يجري بها التفاعل بين صحة البشر، والأنظمة الطبيعية، والبيئة العمرانية، لتحديد مدى صحة كوكب الأرض. وقد بات من الواضح الآن أن نظامنا الاقتصادي يتسبب في زيادة انعدام الأمن الغذائي، وأن شوارعنا تعطي الأولوية لحركة مرور المركبات ذات المحرك وليس التمارين البدنية، وأن مساكننا تزيد من خطر انتقال الأمراض. الواقع أننا نستطيع، بل يتعين علينا، أن نقوم بعمل أفضل من خلال إطلاق برنامج استثماري جديد جريء للصحة الكوكبية.
يمثل الفشل في معالجة العواقب السلبية المترتبة على توسع البيئة الحضرية اليوم فرصة ضائعة لتمكين المجتمعات الموفورة الصحة. وفي أسوأ تقدير، يسهم هذا الفشل بقوة في تعظيم مخاطر الأمراض وانتقالها.
كانت إحدى السمات الإيجابية في الأزمة الحالية التبني السريع لتدابير مبتكرة لتخفيف الأثر الاقتصادي الفوري المترتب على الجائحة. ويدل هذا على أننا قادرون على معالجة الإخفاقات الجهازية بسرعة عندما تتوفر الإرادة.
على نحو مماثل، يتعين علينا أن نعمل على إعادة تصور بيئتنا الحضرية بشكل جذري بحيث تعمل على تعزيز الاستجابة الفورية للجائحة وتخدم كأداة لتحسين الصحة في الأمد البعيد.
ورغم أن العديد من المبادرات الخيرية العالمية سعت إلى تحسين الصحة الحضرية وقدرتها على الصمود، وبنتائج إيجابية بلا أدنى شك، فإن الأنظمة المعيبة اليوم تحتاج إلى تحول أكثر جوهرية. الأمر ببساطة أن العالم في احتياج إلى خطة مارشال جديدة للصحة الكوكبية -على غرار صفقة جديدة للتعافي بعد الجائحة.
سيكون مثل هذا المخطط بمثابة دليل عالمي، لمواءمة الحوافز وتحويل السلوكيات الاعتيادية نحو الهدف المشترك المتمثل في التنمية الحضرية الصحية المستدامة. ويتطلب الأمر موافقة ومشاركة الحكومات الوطنية والمحلية، وشركات التطوير العقاري الخاصة، والمستثمرين، والمنظمات المتعددة الأطراف، وهذا سيستغرق بعض الوقت.
سوف تحتاج الحكومات والأطراف الفاعلة إلى معالجة ثلاث قضايا على وجه الخصوص.
بادئ ذي بدء، لا ينبغي لصناع السياسات أن ينظروا إلى القدرة على الصمود باعتبارها نتيجة نهائية. ذلك أن العديد من الصدمات والضغوط التي تدفع حالات الطوارئ الصحية الحادة والممتدة تنبع من اختيارات مقصودة من قِـبَل الأطراف الفاعلة المحلية والعالمية. بالإضافة إلى التكيف للتغلب على هذه الصدمات والضغوط، يجب أن ينطوي بناء المرونة والقدرة على الصمود على مواجهة القرارات التي تتسبب في إضعاف الأنظمة من خلال تعزيز الارتباك البيئي والأمراض.
كما يتعين على صناع السياسات أن يتعاملوا مع مسألة «التغافل عن المشكلة» الناتج عن المسافة الزمنية والمكانية بين التعرض للمخاطر الصحية والنتائج اللاحقة، وخاصة في ما يتصل بالأمراض الطويلة الأمد. على سبيل المثال، هناك انفصال بين التنمية الحضرية الحالية والعلاج داخل المستشفيات في المستقبل بسبب الربو وأمراض القلب.
أخيرا، يتعين على صناع السياسات أن يعكفوا على معالجة «مشكلة الجيب الخطأ»، التي بسببها قد لا يكون القطاع المستفيد من التدخل هو الذي يتحمل تكلفة تنفيذه. يفرض هذا تحديا على جهود تعزيز الصحة من خلال التنمية الحضرية، وخاصة في سياق ميزانيات القطاع العام المنعزلة، ويستلزم إعادة تصميم التمويل الصحي.
بدائل النهج الحالي القائم على الناتج المحلي الإجمالي في التعامل مع التنمية الاقتصادية متوفرة بالفعل. فقد وضعت بوتان مؤشرا للسعادة الوطنية الكلية لتوجيه صناع السياسات، في حين يدعو تحالف اقتصاد الرفاهة إلى نظام اقتصادي قائم على الرفاهة الذي تتبناه حكومات نيوزيلندا، وأيسلندا، واسكتلندا، وويلز. لكن معالجة القضايا الثلاث المذكورة أعلاه تتطلب التمويل والاستثمار في أنظمة الصحة.
من الممكن أن تساعد مؤسسات تمويل التنمية المتعددة الأطراف، مثل بنوك التنمية الأفريقية والآسيوية. فباعتبارها منظمات غير تجارية توفر رأس المال لمشاريع التنمية الاقتصادية عبر مجموعة واسعة من البلدان الأعضاء، تصبح هذه المؤسسات في وضع فريد يمكنها من قيادة مخطط على غرار خطة مارشال.
أولا، تملك مؤسسات تمويل التنمية المتعددة الأطراف القدرة على الجمع بين رؤساء الدول وقادة القطاع الخاص للمشاركة في وضع مثل هذه الخطة والتصديق عليها، مع مراعاة الفوارق الإقليمية. وثانيا، من الممكن أن تجعل مؤسسات تمويل التنمية المتعددة الأطراف قروض تنمية البنية الأساسية الحضرية مشروطة ضمن المخطط بالدراسة الصريحة للتأثيرات الصحية المترتبة على المشروع واستراتيجيات تعزيز الصحية.
بموجب هذه الخطة، تقرر مؤسسات الإقراض والاقتراض كيفية تعبئة وتخصيص رؤوس الأموال على أساس أماكن تواجد أكثر المشاكل الصحية تكلفة، وأي الهيئات قد تكون في أفضل وضع لتوفير الوقاية من الأمراض.
سلط التأثير المدمر الذي خلفته جائحة «كوفيد 19» الضوء على الحاجة الملحة إلى إصلاحات طموحة وشاملة بدلا من اتخاذ تدابير تراكمية تدريجية. وسوف تشكل خطة مارشال العالمية للصحة الكوكبية نهجا جديدا جذريا، وسوف تمثل خطوة مهمة نحو تعزيز صحة المدن السريعة النمو في المستقبل.
*طبيبة متخصصة في الصحة العامة وعلوم الأوبئة الحضرية، وهي كبيرة زملاء جمعية الأبحاث السريرية في جامعة كمبريدج
ينشر بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت
المصدر: الغد الأردنية