لا تضيّعوا البوصلة في فهم الصراع مع الحركة الصهيونية

مصطفى البرغوثي

في خضم الصراع الشديد الدائر على أرض فلسطين ومحيطها، تنشأ بين حينٍ وآخر اختلالات في فهم طبيعة الخصم الذي تواجهه شعوب المنطقة، وفي مقدّمتها الشعب الفلسطيني. وبطبيعة الحال، يؤدّي الخلل المفاهيمي دائماً إلى اختلال السياسات وتشويشها، أو إلى ترويج أفكارٍ مضلّلة لتبرير الضعف في مواجهة التحدّيات. وحتى لا تضيع الرؤية الاستراتيجية، في خضم ردّات الأفعال التكتيكية والانفعالات العابرة والمؤقّتة، لا بد من إيضاح القواعد الأساسية التالية لفهم سلوك قادة إسرائيل والحركة الصهيونية عموماً.

أولاً، ليست إسرائيل مجرّد كيان طارئ نتيجة ظروف تاريخية معينة، بل هي مشروع استعماري استيطاني إحلالي استند إلى فكرة تلمودية خيالية بأن فلسطين والأردن وأجزاء كبيرة من مصر وسورية ولبنان والعراق وشمال السعودية هي أرض إسرائيل الكبرى التي وعد الله اليهود بها منذ آلاف السنين، رغم أن عدداً قليلاً منهم لم يعش فيها سوى فترة قصيرة، ولا مكان في حدود “إسرائيل الكبرى المتخيّلة” للشعب الفلسطيني أو لأي شعوبٍ أخرى. وهذا المشروع -الفكرة هو المرجع الأساس المستقر في أدمغة كل قادة الحركة الصهيونية، من يمينها إلى يسارها (إن وجد)، وهو الأساس الأيديولوجي لكل السياسات والممارسات والحروب الإسرائيلية.

ثانياً، يخضع تنفيذ الفكرة لموازين القوى، ويحتمل حلولاً ووقفات مرحلية، تضطر خلالها إسرائيل والحركة الصهيونية إلى قبولها بحكم موازين القوى القائمة، مثل اتفاقيات السلام مع بعض الدول العربية أو اتفاقيات الهدنة المؤقتة. لكن جميع الوقفات والاتفاقيات المرحلية لا تُلغي، في أيِّ حال، المشروع الأساس المذكور، بل تخدم الوصول إلى أهدافه النهائية.

ثالثاً، كان المشروع الصهيوني، ومنذ تباشيرانطلاقته المعاصرة الأولى، وما زال، مرتبطاً بالدول والمشاريع الاستعمارية الغربية التي رأت فيه الحليف الاستراتيجي الطبيعي للسيطرة على شعوب المنطقة (والشرق الأوسط عموماً) وثرواتها، ومنع تبلور قوة منظمة وموحّدة فيها، ورأى فيها مصدر القوة والإسناد الذي يستحيل بدونه تنفيذ المشروع الصهيوني وتحويله من فكرة إلى واقع.

لم تكن الحركة الصهيونية قط حركة محلية، بل هي حركة عالمية تعمل من دون كَلَال على تجنيد اليهود واستغلالهم في كل العالم

وقد بدأ التفاعل بين الفكرة الصهيونية والقوى الاستعمارية منذ أيام نابليون بونابرت وحملته على المنطقة، وامتدّ عبر الغزل مع الإمبراطور الألماني، وحاول حتى مع الدولة العثمانية التي رفضته، لكن أعمق التحالفات التي نجحت وأقواها كانت مع الفكر الإنجيلي الصهيوني في بريطانيا، وبعد ذلك في الولايات المتحدة، والذي وجدت فيه الحركة الصهيونية ضالّتها وأقوى مصادر الإسناد والدعم المادي والفكري والأيديولوجي لها.

ومنذ انطلاقتها، استمرّت الحركة الصهيونية في أداء دور استعماري وظيفي لخدمة المصالح الاستعمارية والإمبريالية في المنطقة والعالم. وكانت الذراع الضاربة ومخلب الاستعمار البريطاني والفرنسي في عدوان عام 1956 ضد مصر وضد الثورة الجزائرية، وبعد ذلك عام 1967 لضرب حركة التحرّر العربية، وكانت الحليف الأكبر لنظام شاه إيران الديكتاتوري والمدرب لجهاز السافاك القمعي، وشاركت في اختطاف المناضل المغربي المهدي بن بركة وتصفيته، وصارت أقرب حلفاء نظام الأبارتهايد العنصري في جنوب أفريقيا… والقائمة تطول.

رابعاً، رغم أن أجزاء مهمة من الحركة الصهيونية، خصوصاً في الثلاثينيات والأربعينيات، ارتدت لخدمة أغراضها عباءات يسارية، بحكم توازنات القوى العالمية في حينها، وميول فئات يهودية إلى الفكر اليساري بحكم تعرّضها للاضطهاد اللاسامي بوصفها أقليات في أوروبا، فإن الأيديولوجيا الصهيونية بقيت أساساً دينية أصولية، كما يشكل الفكر الصهيوني التلمودي المتعصّب والمتطرّف أحد أهم محرّكات سلوكها في هذه المرحلة، بل أصبحت الأحزاب الدينية الإسرائيلية المتطرّفة من أهم عناصر التأثير في السياسات الإسرائيلية وتوسّعها الاستيطاني ونزعتها العسكرية العدوانية.

خامساً، لم تكن الحركة الصهيونية قط حركة محلية، بل هي حركة عالمية تعمل من دون كَلَال على تجنيد اليهود واستغلالهم في كل العالم، وتجنّد حالياً أجزاء واسعة من الإنجيليين المتصهينين خصوصاً في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتستغل نفوذهم المالي والاقتصادي بالتحكّم في الانتخابات ونتائجها في الدول الغربية خصوصاً، وليس حصراً، وأبرز الأمثلة ما يفعله اللوبي الصهيوني في التأثير على الانتخابات التشريعية والرئاسية في الولايات المتحدة.

سادساً، مع احتداد الصراع مع الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة، جرى تحوّل خطير في الحركة الصهيونية، التي اتسمت أيديولوجيّتها دائماً بالعنصرية المتطرّفة، نحو الفاشية. ولا يمكن تفسير الإبادة الجماعية التي نفّذت وتنفّذ في قطاع غزّة، ومشاريع التطهير العرقي الشامل للشعب الفلسطيني، وجرائم الحرب الأخرى، كالعقوبات الجماعية والتجويع، إلا بأنها نتاج فكر وسياسة فاشية خطيرة لم يشهد العالم مثلها منذ الحرب العالمية الثانية. ويتلاءم هذا التحوّل تماماً مع تحوّلات مشابهة في بلدان غربية أخرى نحو اليمينيّة العنصرية المتعصّبة والفاشية.

المشكلة الجوهرية في السلوك الرسمي الفلسطيني، وسلوك أطراف إقليمية كثيرة الاستمرار في التعلق بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية

سابعاً، ليس الاستيطان والتوسّع الاستيطاني الجاري في الضفة الغربية ظاهرة عابرة، أو مقتصراً على فئة متطرّفة، بل هو التطبيق الفعلي لكل المشروع الاستيطاني الذي يكرّر في الضفة الغربية بما فيها القدس ما فعله من توسع استيطاني وإعادة هندسة للواقع الجغرافي والديمغرافي في أراضي 1948. وهو يفعل الشيء نفسه في الجولان المحتل، وسينفذه في أي بقعة جغرافية يتمكّن من احتلالها والسيطرة عليها.

ثامناً، الحركة الصهيونية وحكّام إسرائيل مستعدّون باستمرار لشن أشدّ الهجمات وأشرسها ضد كل من يقاوم مخطّطهم الأصلي، أياً كان شكل المقاومة، مسلّحاً أو شعبياً أو سلمياً، أو حتى بالفكر والكلام. وتُستخدم هذه الهجمات ليس فقط القوة والعنف المسلح، بل منظومات إعلامية وتحريضية ولوبيات، تأثيرها أقوى، في أحيانٍ كثيرة، من الأدوات العسكرية، لفرض هيمنة الرواية والسردية الصهيونية للصراع الجاري ولحشد الدعم والتأييد لإسرائيل والحركة الصهيونية، ولقمع القوى والحَراكات المؤيدة لنضال الشعب الفلسطيني. وتمثل شيطنة الخصم وتشويه صورته ووسمه بالإرهاب أهم أدوات الحملات التي تشنّ ضد كل من يقاوم المشروع الصهيوني.

وما نراه اليوم من تحريض وشيطنة لحركة حماس وقوى مقاومة أخرى، وعبر ذلك شيطنة الشعب الفلسطيني بكامله، مجرّد نموذج لسلوك تكرّر مع قوى أخرى في السابق. ولو خضعت “حماس” وقبلت مثلاً باتفاق أوسلو واعترفت بإسرائيل، وقبلت التعايش مع الاحتلال والاستيطان، لاختلف السلوك الإسرائيلي تجاهها، ولكنه لن يضمن بقاءها أو بقاء الشعب الفلسطيني في فلسطين. وقبل “حماس”، كانت حركة فتح وقوى فلسطينية أخرى ومنظمّة التحرير توصف بالإرهاب، بل ما زالت تصنّف في الكونغرس الأميركي إرهابية، لأنها كانت تشارك في مقاومة المشروع الصهيوني، والكل يذكر كيف صار الشهيد الراحل ياسر عرفات عنواناً للهجمات الصهيونية، رغم اتفاق أوسلو، ليكتشف لاحقاً أن الاتفاق كان فخّاً، وكيف صُنف الإرهابي الأكبر بعد أن مُنح جائزة نوبل للسلام، ثم حوصر وعُزل حتى جرى اغتياله.

استمرّت الحركة الصهيونية في أداء دور استعماري وظيفي لخدمة المصالح الاستعمارية والإمبريالية في المنطقة والعالم

لا مجال هنا للتفصيل أكثر في شرح هذه القواعد الثماني المذكورة، ولكن لا غنى عن فهمها بعمق وإدراك مضمونها لكل من يريد أن يفهم، أو يتعامل أو يشارك في الصراع الوجودي الدائر في فلسطين والمنطقة. وما زالت المشكلة الجوهرية في السلوك الرسمي الفلسطيني، وسلوك أطراف إقليمية كثيرة الاستمرار في التعلق بوهم الحل الوسط مع الحركة الصهيونية، التي قالت وفعلت كل ما يمكن فعله، ونفّذت كل ما أمكن تنفيذه من جرائم، لإيصال رسالتها أنه لا مكان لحلول وسط مع الشعب الفلسطيني، بل قضت على كل مشروع في ذلك الاتجاه، بما في ذلك اتفاق أوسلو الذي استخدمته مرحلياً لتغيير ميزان القوى لصالحها. ورغم أن عنوان الاستراتيجية المعلنة لحكام إسرائيل الحاليين، وكذلك قادة المعارضة الصهيونية، هو حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني وإنهاء وجوده على أرض فلسطين التاريخية.

ويترافق وهم الحل الوسط مع وهم آخر، أن الولايات المتحدة يمكن أن تكون وسيطاً نزيهاً في الصراع الدائر، رغم تأكيدها المتواصل، بالأفعال والأقوال، أنها الحليف الاستراتيجي لإسرائيل. ولا يعني ذلك أن من غير الممكن الاستفادة أحياناً من فجوات وخلافات تكتيكية، تظهر بين حين وآخر بين إسرائيل والولايات المتحدة، ولكن ذلك شيء واعتبار الأخيرة وسيطاً عادلاً شيء آخر.

لا يوجد سوى تفسير واحد للتعلق بالأوهام التي ثبت مراراً عدم صحّتها، وهو عدم فهم الواقع في أحسن الأحوال، أو العجز، أو الخوف، أو التقاعس عن التصدّي للمهمّة التي لا بديل لها في الصراع الدائر، وهي تبنّي استراتيجية موحّدة لتغيير ميزان القوى لصالح الشعب الفلسطيني والشعوب العربية، بمواجهة المشروع العدواني الصهيوني، بدل محاولة الاختباء العبثية من مواجهته ومواجهة آثاره المدمّرة.

المصدر: العربي الجديد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى