
أخيراً، اكتشف الغرب أن النظام العالمي القديم ينهار أمام أعيننا، وأن نظاماً عالمياً جديداً مبنيّاً على القوة ينهض ليحل محلّه. حدث هذا “الاكتشاف الجديد” فجأة بعد التصادم الذي وقع في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض بين الرئيسين الأميركي دونالد ترامب ونظيره الأوكراني فلودومير زيلينسكي. رأى الإعلام الغربي في تلك المواجهة العنيفة والإذلال المتعمّد والعلني للرئيس زيلينسكي من مضيفه التجلّي النهائي للحظة تاريخية شكلت نقطة تحوّل حاسمة في تطور النظام العالمي. وقد دفع ما حدث مؤسسة إعلامية عريقة، وهي بي بي سي، إلى التساؤل عما إذا كنّا على أعتاب نظام عالمي جديد، لتجيب بأن التحوّل الكبير بدأ مع المكالمة الهاتفية بين الرئيس الأميركي ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، وتأكد مع ظهور الخلاف المتزايد بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بشأن العلاقة مع روسيا والحرب في أوكرانيا في مؤتمر ميونخ، المنعقد في منتصف الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، وتجلى، بوضوح، في الجلسة الصاخبة بين ترامب وزيلينسكي التي اختزلت في نظر الإعلام الغربي لحظة التحول الكبير. كان لا بد من هذا “الزلزال” كما وصفته مجلة لوبوان الفرنسية، الناتج عن موجة الصدمة التي أحدثها تشابك ترامب وزيلينسكي، “ليتحرّك التاريخ بسرعة”، تحت وطأة تصادم الصفائح الكبرى المتمثلة في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا، والتي ستؤدي، حسب المجلة نفسها، إلى إطلاق موجات زلزالية تكون لها ارتدادات عنيفة في جميع أنحاء العالم!
لقد قرأ الإعلام الغربي في عملية تمثيل تلفزيون الواقع التي يتقنها الرئيس ترامب، والذي وصف ما حدث بأنه “لحظة تلفزيونية حقيقية”، رسالة من رئيس أميركي ينهج سياسة واقعية بتطرّف مزيد ومُنقَّح، يريد إيجاد نظام عالمي جديد تسود فيه المصلحة على القانون، ويطغى فيه منطق القوة على الحق والعدالة. الآن فقط، اكتشفوا أن النظام العالمي القائم، الذي باسمه ظُلمت شعوب كثيرة ودمّرت دول عديدة، مبنيّ على قواعد طوباوية محكوم عليها بالفشل، فقط لأنها لم تعد تلبي طموحاتهم وتغذّي أنانياتهم، ورفعوا أصواتهم يطالبون بتغييرها والتأسيس لنظام جديد يقوم على قواعد تحفظ لهم مصالهم ووجودهم! غريب منطق هذا الغرب، فهو لم يكتشف انهيار النظام العالمي الحالي إلا بعد حادث التصادم بين ترامب وزيلينسكي، مع أن بوادر انهيار هذا النظام بدأت مع الحرب الأميركية ضد أفغانستان والعراق، ومع ما سمّيت “الحرب العالمية ضد الإرهاب” التي شنتها أميركا، بقرار أحادي، لفرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط، وأكبر تجليات انهياره كانت باديةً للعيان مع الممارسات الإجرامية والسياسة العنصرية والتوسّعية التي ظل الكيان الصهيوني ينهجها، في تحدٍّ سافرٍ لكل قوانين النظام العالمي ومواثيقه، منذ زرعت دويلته في قلب خريطة الشرق الأوسط، قبل أن تأتي حرب الإبادة التي ما زالت مستمرّة في قطاع غزّة والضفة الغربية لتفضح زيف كل الشعارات التي قام عليها النظام العالمي الحالي.
ترامب ليس قدّيسا يسعى إلى هدم المعبد القديم لإقامة آخر جديد مكانه يبشّر بالعدالة والحق والحرية والسلام في العالم، وإنما هو رجل أعمال ومُضارب لا تهمّه سوى الصفقات السريعة والمُربحة
ترامب ليس قدّيسا يسعى إلى هدم المعبد القديم لإقامة آخر جديد مكانه يبشّر بالعدالة والحق والحرية والسلام في العالم، وإنما هو رجل أعمال ومُضارب لا تهمّه سوى الصفقات السريعة والمُربحة، كما أن النفاق الغربي ليس وليد اليوم، وإنما هو جزء من تركيبة الحمض النووي عند الإنسان الأبيض، منذ قرّر هذا الأخير غزو العالم باسم تفوّقه وتمدّنه وتحضّره، وبدعوى نشر دينه وقيمه ولغاته وسِلعه ونفوذه، سعياً وراء مصالحه، وإرضاء لعقدة تفوّقه ورغبة في إخضاع العالم لسيطرته وهيمنته.
صحيحٌ أن النظام العالمي الحالي أصبح متجاوزاً، لكن ليس اليوم فقط، بسبب صراع الديكة بين ترامب وزيلينسكي، وإنما منذ نهاية الحرب الباردة، بعد سقوط جدار برلين عام 1989 وانهيار كتلة الاتحاد السوفييتي، عندما برزت آمال مثالية كثيرة عبر العالم في قيام نظام عالمي جديد عادل وخال من صراعات القوى العظمى، لكن تلك الآمال سرعان ما سرقها المحافظون الجدد في أميركا الذين كانوا يحلمون بسوق عالمية واحدة ونظام قائم على قواعد تشرف عليها واشنطن وحدها باعتبارها القوة العظمى الوحيدة في العالم، رائدة الديمقراطيات الليبيرالية، والنتيجة هي الحروب والكوارث التي شهدها العالم خلال 36 سنة الماضية.
انهيار النظام العالمي الحالي لا يمكن اختزال بدايته في لحظة إذلال زيلينسكي، بما أن بوادره كانت جليّة مع بداية الظلم المستمر ضد الفلسطينيين منذ سبعة عقود ونيّف
التذكير بأن انهيار النظام العالمي الحالي لا يمكن اختزال بدايته في لحظة إذلال زيلينسكي، بما أن بوادره كانت جليّة مع بداية الظلم المستمر ضد الفلسطينيين منذ سبعة عقود ونيّف، لم يأت من زعيم عربي، أو يصدُر عن محفل عربي، وإنما جاء في مقال مشترك نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية، حمل توقيع ثلاثة رؤساء، هم رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم، ورئيسا كولومبيا غوستافو بيترو، وجنوب أفريقيا سيريل رامافوزا، استهلوه بتساؤل استنكاري كبير: ما الذي تبقّى من النظام العالمي؟… ليأتي جوابهم مؤكّدا أن حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزّة أثبتت فشل هذا النظام، وحجّتهم على ما ذهبوا إليه صمت العالم “أكثر من 500 يوم، واصلت فيها إسرائيل بدعم من دول قوية توفر لها غطاء دبلوماسيا ومعدّات عسكرية ودعماً سياسياً، انتهاك القانون الدولي بشكل ممنهج في غزّة”، واعتبروا أن “هذا التواطؤ وجّه ضربة مدمّرة لنزاهة ميثاق الأمم المتحدة ومبادئه الأساسية المتعلقة بحقوق الإنسان، والمساواة السيادية بين الدول، وحظر الإبادة الجماعية”، ليختموا مقالهم بالقول إن “نظاماً يسمح بقتل 61 ألف شخص في غزّة لا يمكن وصفه بأنه يفشل فحسب، بل إنه فشل بالفعل”.
ما العمل إذن؟ العالم أمام مفترق طرق كبير، والخيارات محدودة، إما المخاطرة بانهيار النظام العالمي الحالي، وفتح الباب أمام فوضى عارمة قبل أن يظهر نظام عالمي جديد لا أحد يعرف ملامحه، أو العمل بجد من أجل إنقاد النظام العالمي الحالي، بفرض احترام مبادئه وقوانينه، حتى تسود العدالة بين كل أعضائه ويعم السلم جميع مكوناته. ومع الأسف، النيات الحسنة لا تكفي وحدها لوقف عملية الهدم الجارية حاليا، وقد آن الوقت لرفع الصوت عاليا وجماعيا من أجل دقّ جرس الإنذار قبل فوات الأوان.
المصدر: العربي الجديد