ملفّات على طاولة قيس سعيّد

أنور الجمعاوي

بات قيس سعيّد، بحسب مراقبين، الرئيس الفعلي لتونس بعد حركة 25 يوليو (2021). وذلك في ظلّ نظام رئاسوي مطلق، ودستور جديد (2022)، منحه صلاحياتٍ واسعةً، في مقدّمتها السهر على السير العادي للسلطات العمومية وضمان استمرارية الدولة، وترؤس مجلس الأمن القومي، وإعلان الحرب والسلم، وتعيين رئيس الحكومة، وبقية أعضاء الحكومة باقتراح من رئيسها، وإنهاء مهامّهم، ورسم السياسات العامّة في البلاد، وتعيين القيادات العُليا المدنية والعسكرية، وختم القوانين الدستوريّة والأساسيّة والعاديّة. ويتمتّع رئيس الجمهورية بالحصانة طوال تولّيه الرئاسة، ولا يُسأَل عن الأعمال التي أدّاها في إطار أدائه مهامّه. وأدّت هذه الصلاحيات إلى مركزة القرار بيد رئيس الجمهورية، وتعظيم المسؤوليات المُلقاة عليه في إدارة البلاد. وقد تأكّد هذا التكليف مع تجديد العهدة لقيس سعيّد في انتخابات رئاسية غير تنافسية في 6 أكتوبر/ تشرين الأول 2024. وبعد مرور ثلاث سنوات ويزيد على إطلاق مسار “25 يوليو”، ما انفكّت عدّة ملفّات مشكلية على طاولة رئيس الجمهورية، تنتظر معالجةً فوريةً وحلولاً مستدامةً.
يُعدّ الملفّ الاقتصادي من أعقد الملفّات التي تواجهها منظومة قيس سعيّد، فقد ورثت البلاد اقتصاداً ريعياً هشّاً، أدمته السياسات التنموية المرتجلة ومطامع الأسر الحاكمة والعائلات المتنفّذة عقوداً منذ قيام دولة الاستقلال، وأرهقته بعد الثورة الاحتجاجات المطلبية وتداعيات أزمة كوفيد – 19، واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وقد استعاد قطاع السياحة عافيته بعد حركة 25 يوليو بسبب استقرار الوضع الأمني، وعاد إنتاج الفوسفات نسبياً إلى نسقه الطبيعي في ظلّ انحسار الموجات الاحتجاجية النقابية التي كانت عاليةً طيلة عشرية الانتقال الديمقراطي (2011ـ 2021). ومع أهمّية هذه المُستجدَّات، ما زال الاقتصاد التونسي يعاني ركوداً واضحاً.

تراجع هامش الحرّيات العامة الذي أنتجته الثورة بعد أن اشتدّت وتيرة الاستقطاب الثنائي بين أنصار سعيّد وخصومه

وتدلّ على ذلك مؤشّرات عدّة. فبحسب المعهد الوطني للإحصاء، بلغت نسبة التضخّم حتى حدود نوفمبر/ شباط الحالي 6.6%. ووصل الدّين العام إلى 71% من الناتج المحلّي الإجمالي. وسجّل حجم الاستثمار انخفاضاً قياسياً منذ 2011، إذ تدنّى من 26% من الناتج المحلّي الإجمالي في العام 2011 إلى 14% في العام 2023، في ظلّ كثرة التعقيدات الإدارية، وشعور بعض المستثمرين بعدم اليقين. فيما تُفيد إحصاءات رسمية بأنّ نسبة النمو الاقتصادي في تونس لم تتجاوز خلال الثلث الثالث من سنة 2024 حدود 1.8%. وتعاني البلاد نقصاً حادّاً في بعض الأدوية الحيوية الموجّهة لمعالجة أمراض مزمنة، ومن شحّ في بعض الموادّ الأساسية مثل الحليب والسكّر والزيت النباتي المدعّم والغاز. وقد أدّى ارتفاع نسبة التضخّم وقلّة عرض عدة مواد غذائية وطاقية إلى شيوع الاحتكار، وارتفاع الأسعار بشكل جنوني، وهو ما أسهم في تدهور المقدرة الشرائية لمعظم المواطنين. وانعكس الركود الاقتصادي سالباً على الوضع الاجتماعي، فقد قدّر المعهد الوطني للإحصاء عدد العاطلين عن العمل في الثلث الثالث من سنة 2024 نحو 667.2 ألفاً، وبلغت نسبة البطالة 16%. فيما تصل إلى 40.5% في صفوف الشباب، و25% في صفوف خرّيجي الجامعات. وتعاني نسبة 16.6% من السكّان حالة الفقر، وتتسع دوائره في مناطق الظلّ، الطرفية والداخلية خصوصاً، ويعيش 26% من إجمالي 3.4 ملايين طفل في تونس تحت خطّ الفقر (حوالي 826 ألف طفل) و5.1 % في فقر مدقع، بحسب دراسةٍ أعدّتها منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف). وقد وعد قيس سعيّد بالتمكين المهني لأصحاب الشهادات العُليا، وإلغاء عقود المناولة والعمل الهشّ، ووعد بإطلاق عدّة مشاريع كُبرى لاستقطاب آلاف العاملين وتحسين الخدمات المُسداة إلى المواطنين. لكنّ جُلّ تلك المشاريع ظلّت معطّلةً بسبب قلّة التمويل والبيروقراطية الإدارية، وتراجع الاستثمار الخارجي في تونس. وقد سبق أن أفاد رئيس الحكومة، هشام المدوري، بأنّ عدد المشاريع الكُبرى، التي توقّف إنجازها، أو لم ينطلق بعد، رغم رصد تمويلات لها قدّر بـ 1126 مشروعاً. ووعد بأنّ فريقه الحكومي سيعكف على تحريك تلك المشاريع ومعالجة أسباب عطالتها.
وتحتاج تونس لتحقيق انتقال اقتصادي ناجع إلى حلول إجرائية، من قبيل تحسين مناخ الأعمال، ورقمنة الإدارة، وتشجيع الاستثمارين، المحلي والأجنبي، وتقديم حوافز مالية وضريبية للشركات الناشئة والمشاريع الصغيرة، وتسهيل حصول الباعثين الشبّان على قروض مجزية ومُيسَّرة، والمبادرة بإنشاء مشاريع حكومية جديدة، خصوصاً في المناطق الداخلية التي تعاني نقصَ التنمية. ومن المفيد العمل على تنويع المنتج الاقتصادي من خلال الاستثمار في قطاعات جديدة، مثل الذكاء الاصطناعي، وتقانة المعلومات، والاقتصاد الأخضر، والطاقات المتجدّدة، وتأهيل القوى العاملة عبر إحياء تجربة التعليم المهني، وتكثيف برامج التدريب الفنّي لتأهيل الشباب والعاملين في القطاع العمومي لمواكبة تطوّرات سوق العمل وحاجياته. ويُفترَض توسيع القاعدة الضريبية لتشمل القطاع غير الرسمي لتحسين موارد الدولة، ومن المهمّ النظر في إمكانية إعادة جدولة الديون الخارجية وإغراء الدائنين بتحويلها مشاريعَ استثمارية في الداخل التونسي.
وتعدّ البيروقراطية من أسباب التخلّف الأساسية المشهودة في البلاد، وهي ظاهرة مشكلية حاضرة بشكلٍ لافت للنظر في المؤسّسات العمومية، فالإدارة الحكومية التي يُفترض أن تكون سبّاقة إلى تيسير نفاذ المواطن إلى المعلومة، وجادّة في توفير الوثائق التي يطلبها في وقت قياسي، ويفترض أن تكون حريصةً على تأمين الخدمات للناس في أسرع وقت ممكن، أصبحت في تونس بعد الثورة عنوان عطالة وتعطيل، وعائقاً من دون تحقيق التنمية الشاملة. وقد سبق لقيس سعيّد أن شدّد مراراً على ضرورة أن تكون الإدارة في خدمة المواطن، وأن يسعى كلّ مسؤول من جانبه إلى التفاعل مع مشاكل المواطنين، وأن يعمل على حلّها بشكل فوري بدل تجاهلها، وتأجيل التعامل معها إلى أجلٍ غير مسمّى، واختراع كثير من التعقيدات التي تحول دون قضاء المواطن حاجته. والواقع، أنّ الحصول على بعض الوثائق الإدارية من مؤسّسة عمومية ما أو الظفر بموعد في مستشفى عمومي قد يستغرق من المواطن أسابيع وأكثر. كما أنّ تنفيذ مطلب للربط المنزلي الفردي بشبكة الكهرباء أو الماء أو الغاز يقتضي الانتظار شهوراً، بل قد ينتظر المواطن عاماً (ويزيد) من دون أن يظفر بحقّه الدستوري والطبيعي في الحصول على عدّاد كهرباء أو ماء رغم استيفائه للشروط القانونية، وذلك من واقع تجربة شخصية، ما زال كاتب هذه السطور يعيش تعقيداتها. والغالب على سياسة تلك الهياكل العمومية التسويف، وخطاب “ارجع غداً”، والتعلّل بأسباب واهية أو غير واقعية لتبرير عدم أداء الخدمة، ووضع لجان فرعية وأخرى متفرّعة منها، بدعوى معالجة مشاغل الناس من دون جدوى، ويتصرّف معظم هؤلاء المسؤولين من منطلق التعالي، والتملّص من المسؤولية، والتراخي في خدمة الناس، ويعتقد بعضهم أنّهم إذ يقومون بعملهم الخدمي، يفعلون ذلك تفضّلاً، ويوهمون المواطن بأنّهم يقدّمون له مزيّة. والحال أنهم يمارسون واجبهم المهني، الذي يتقاضون في مقابله أجوراً مجزيةً من خزينة الدولة. ويبدو أنّ إحساس هؤلاء بالأمان الوظيفي، وأنّهم في حلّ من الرقابة الدورية على أدائهم، وقناعتهم بأنّ الراتب الشهري الحكومي مضمون، وتحصّنهم بقانون المصالحة الإدارية والمرسوم 54 ضدّ أي نقد صادر من المواطنين، جعلهم يتمسّكون بعادات بيروقراطية قديمة، ولا يبذلون الجهد الكافي لخدمة الناس وتلبية مطالبهم الاستعجالية.

تواجه تونس خلال ولاية سعيّد الثانية تحدّيات جمّة، تقتضي معالجتها تفعيل شعار الوحدة الوطنية

لذلك يعتبر ملفّ الإصلاح الإداري من أبرز التحدّيات التي تواجه سعيّد خلال عهدته الثانية. فمن المهم عصرنة الإدارة وترسيخ ثقافة العمل، وتعزيز نظام التحفيز والرقابة على أداء الموظفين، حتى تتحقّق النهضة الشاملة، ويستعيد المواطن ثقته في المؤسّسات العمومية.
في صعيد آخر، يبقى الملفّ الحقوقي (وكذا السياسي)، من بين القضايا التي تشغل الرأي العام في الداخل والخارج. فبعد حركة 25 يوليو، اشتدّت وتيرة الاستقطاب الثنائي بين أنصار الرئيس قيس سعيّد وخصومه، وتعالت نبرة الإقصاء والإقصاء المضاد، والصراع على الشرعية والمشروعية، وادّعى كلّ طرف امتلاك الحقيقة المطلقة، وتراجع بحسب مراقبين هامش الحرّيات العامّة والخاصّة التي أنتجته الثورة.
وفي هذا السياق، أوضح التصنيف العالمي لحرّية الصحافة الصادر عن “مراسلون بلا حدود” أخيراً بأنّ تونس تحتلّ المرتبة 118 عالمياً من بين 180 بلداً. فيما كانت في العام 2020 تحتل المرتبة 72 عالمياً وذكرت منظمة العفو الدولية أنّ “عشرات بينهم معارضون سياسيون، ومحامون، وصحافيون، ومدافعون عن حقوق الإنسان، ونشطاء، رهن الاحتجاز التعسّفي أو الملاحقات القضائية أو كليهما، منذ نهاية 2022، على خلفية ممارسة حقوقهم في حرّية التعبير والتجمّع السلمي وتكوين الجمعيات”. ولا يخدم هذا الوضع الحقوقي ـ السياسي المأزوم الصالح العام. لذلك من المهمّ، بحسب ملاحظين، بلورة مشروع وئام ومصالحة بين المنظومة الحاكمة والمعارضة، ينبني على قواعد الاعتراف المتبادل، والنقد الذاتي، وإطلاق سراح المعتقلين على خلفية مواقفهم السياسية، وإطلاق حوار وطني شامل على نحو يبعث برسائل طمأنة للداخل والخارج.
ختاماً، تواجه تونس خلال ولاية سعيّد الثانية تحدّيات جمّة، تقتضي معالجتها تفعيل شعار الوحدة الوطنية وتجاوز الخلافات البينية وإدارة الدولة بعقل توافقي، ينفتح على الفرقاء السياسيين، وعلى مكوّنات المجتمع المدني الوازنة من أجل بناء دولة الحقوق، والرفاه، والإدارة التفاعلية الناجعة.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى