
ظلّ الرئيس الأميركي، ترامب، يمارس السياسة الخارجية بضروب كثيرة من الخداع المبني على تصوّرات وهمية لا تستند إلى الواقع، وهو يلجأ، في أحيانٍ كثيرة، إلى وهم السيطرة، على سبيل المثال، عندما يطرح قضية شراء قطاع غزّة فهو يفترض مسبقاً أن هناك من يريد بيعه، وأنه يقدّم العرض الأفضل. وبعيداً عن وهم التعامل مع الأوطان أنها عقارٌ كبير، فإن وهم السيطرة على العالم يدفعه إلى الاعتقاد بأنه قادرٌ على الاستيلاء على كل ما يريد مُلغياً وجود الآخرين وخياراتهم، فهو يستخدم الوهم بالمعرفة بشكل منتظم في خطاباته، معتمداً على معتقداته الخاطئة لفهم حقيقة الوقائع، ولا يسعى إلى فهم تفاصيل الموقف، فيُصدر أحكاماً خاطئة ويعمّمها. وفي تصريحه الذي هدّد فيه المقاومة بفتح أبواب الجحيم عليها إذا لم تفرج عن كل الأسرى الذين تحتجزهم، جاءت صفقة التبادل السادسة بين المقاومة والكيان الصهيوني لتُفهم ترامب أن العالم ليس مطابقاً لما يحمله في ذهنه، وأن المقاومة ليست سلطة مُتهالكة يسعى صاحبها إلى استرضائه حفاظاً على كرسيّه. وهكذا ذهبت تهديداته بإطلاق جميع الأسرى الصهاينة السبت الماضي أدراج الرياح، وواصلت المقاومة خيارها وفق ما تقتضيه عملية التبادل، وبالشروط التي ارتضاها الطرفان في ظل رعاية الوساطة الدولية.
وفي خطّته لإنهاء القضية الفلسطينية، ومن خلال مواقف ترامب المعلنة، هناك تحيّز إدراكي شائع الاستخدام آخر، وهو وهم الارتباط، الذي يربط بين حدثين ليس بينهما أي تطابق، أو حتى مبالغة في نسبهما العلائقي، فمجرّد الربط بين فكرة أن غزّة مدمّرة، و”عدم وجود أماكن صالحة للسكن في قطاع غزّة”. وهذا يعني أن شعبها لا يريد البقاء فيها، وبالتالي يمكن توزيع هؤلاء السكان بين دول مختلفة، هذا النوع من الوهم العقلي يتجاهل غالباً الحقائق على الأرض، وكسمسار بارع يطرح السعر الأقصى لينال الثمن الذي يريده، لوّح ترامب بفكرة التهجير والاستيلاء على غزّة، وكأنما الأمر سهل ويسير كما تحرّكت القطارات يوماً لنقل آلاف الهنود الحُمر إلى محميّاتٍ معزولة تحت ترهيب أسلحة الجيش الأميركي، ويدرك المحيطون به أن المسألة الفلسطينية أعقد من هذا، وهو أصلاً قد طرح الأمر لإثارة رعب الحكّام المحيطين بغزّة، فيسارعون بأنفسهم إلى إيجاد حل يرضي ترامب، ويبعد سخطه عنهم عبر إقصاء المقاومة الفلسطينية وإبعادها، وقد عجزت القوة الصهيونية بكل ما لديها من قوّة عن إنهائها.
لوّح ترامب بفكرة التهجير والاستيلاء على غزّة، وكأنما الأمر سهل ويسير كما تحرّكت القطارات يوماً لنقل آلاف الهنود الحُمر إلى محميّات معزولة تحت ترهيب أسلحة الجيش الأميركي
من السمات المميزة لتصريحات ترامب أنه يمارس أيضاً التحيّز المفرط في حججه، فقد ظل يكرّر بإصرار أن “الأردن ومصر سيستقبلان سكاناً من غزّة”، وقال “أعتقد أن الأردن سيستقبل الناس، نعم، الناس من غزّة، وأعتقد أن مصر سوف تستقبلهم أيضاً”، كما أردف “سمعت أحدهم يقول إنهم لن يفعلوا ذلك، لكن أعتقد أنهم سيفعلون، أنا واثق من أنهم سيفعلون ذلك”. تميل هذه التصريحات إلى إظهار تنوع التحيّزات المعرفية التي يستخدمها ترامب ووجودها المنتظم في السرد الذي يقدّمه للعالم، فهو يتجاهل مواقف الأردن ومصر الرافضة التهجير، والأهم هو يتعامل مع الشعب الفلسطيني وكأن لا وجود له، وهو استبطان للتصوّر الصهيوني المعروف حول “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”. هذا الانحراف المنهجي عن الحقائق يجعله يصوّر أوهامه العقائدية حلاً عبقرياً لمشكلات المنطقة، وكأن القضية الفلسطينية يمكن إلغاؤها بقرار ناتج عن رؤية توراتية متعصبة، والتي تحل هنا محل المعلومات الصحيحة والتفسيرات المعقولة. ومن خلال هذا المخطط الرمزي المستمر، يتجنّب اللجوء إلى الحجج الموضوعية، ويقترح حلولاً هي أقرب إلى الكوميديا السوداء، فهو يعطّل العملية العامة للإدراك والفهم من خلال تشويه المعلومات الأولية بشكل ثابت. ومن خلال الممارسة المنهجية للكذب إلى جانب الإفراط المَرَضي، يحبس ترامب نفسه في فقاعة معرفية، حيث يصبح هو المحدّد الوحيد للواقع، كما يتّضح من التصريحات الإمبريالية التي أدلى بها أخيراً بشأن السيطرة على قطاع غزّة الذي يمكن أن “يتحوّل إلى ريفييرا الشرق الأوسط”، من دون فلسطينيين، وهي فكرة “سخيفة” و”عبثية”، ومن شأنها أن تشعل المنطقة، ولا تقل سخافة عن أفكاره المتعلقة بضم كندا أو غرينلاند أو قناة بنما، وجميعها منفصلة تماماً عن الحقائق الدبلوماسية.
يدرك المتابع لسلوك ترامب السياسي أن ما يقدّمه من وصفات لم تحقق نجاحاً يذكر لأن ترامب، في ولايته الأولى، لم يحصل على أي شيءٍ من كيم جونغ أون، بعد أن هدّده بنار جهنم، ثم أعلن أنهما “وقعا في الحب” بشكل متبادل. لم يقدر على تحقيق إنجاز في أفغانستان بعد إسقاط “أم القنابل” على البلاد، والدخول في محادثات السلام مع حركة طالبان. ولم يحصل على شيء من إيران، بعد أن أمر بالضربة ثم ألغاها. لقد أثبت على كل هذه الجبهات أنه شخصٌ لا يمكن التنبؤ بتصرّفاته وعاجز، وخطته لإنهاء القضية الفلسطينية، عبر التهجير الجماعي، لن تخرج عن سياق تاريخ فشله المتراكم في السياسة الدولية.
المصدر: العربي الجديد