
بدأ تنفيذ بنود الهدنة في قطاع غزّة التي أعلنت يوم 19 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية، إلا أن حرب الإبادة والتهجير المعلنة من طرف الصهاينة ومن يقف في خندقهم لم تتوقف، وذلك رغم التوقف المؤقت لإطلاق النار. نتبين ذلك في المواقف والتصريحات التي تواصلت مُعلنةً لزوم مواصلة تهجير الفلسطينيين وتحويل قطاع غزّة إلى “رﻴﭭييرا” للسياحة العالمية. ونتصوّر أنه لا جديد في دواعي الهدنة المؤقتة، مثلما أنه لا جديد في دعوات التهجير والإبادة، المتواصلة من طرف الصهاينة والغرب الاستعماري، وفي مقدمته الولايات المتحدة التي يواصل رئيسها حلمه “بشرق أوسط جديد”، يحمل فيه الكيان الصهيوني صفة الوكيل الرسمي للغرب الإمبريالي في قلب المشرق العربي.
لم نفاجأ بشطحات ترامب، ولا بشطحات الإعلام الذي حوّل اسم القضية الفلسطينية منذ نهاية سنة 2023 إلى قضية قطاع غزّة والغزّيين، رغم أن حرب الإبادة الجارية تعد حرب إبادة لمجموع الشعب الفلسطيني. يندرج ما أعلنه ترامب ضمن حسابات سياسية وإعلامية محدّدة، وهي حسابات ذات صلة بالحرب الدائرة في فلسطين المحتلة. إعلانه المرتبط برغبة الولايات المتحدة في إتمام مشروع الإبادة والحرق والهدم والتدمير، الذي مارسته المليشيات الصهيونية منذ أزيد من سنة ونصف على المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية، وشمل البنيات التحتية والمؤسسات، وحوَّل المدن والمخيمات الفلسطينية في قطاع غزة إلى خراب.. يدفعنا إلى مزيد من التأكيد على أن المقاومة متواصلة، وطوفان عودة المهجّرين خلال أشهر الحرب الماضية إلى أرضهم يُعَدّ بمثابة ردّ قوي ومباشر على شطحات ترامب، وهو يتمّم مشروع المقاومة الجديدة التي فجرها طوفان الأقصى.
تذكرنا أحلام ترامب بتوصيات مؤتمر المنامة في 2019، التي وضعت مخطّطات “الازدهار الاقتصادي” وعناوين “الشرق الأوسط الجديد”، فيما أصبحت تعرف “بصفقة القرن”.. الصفقة التي تَظهر ثم تختفي، وهي ترتبط اليوم بتوسيع دوائر التطبيع والمطبّعين، ومخططات الاتفاقات الإبراهيمية التي تلتها، حرب تدمير قطاع غزّة وتوسيع دوائر التوطين والاستيطان في الضفة الغربية، وفي باقي الأرض الفلسطينية، ثم وضع قطاع غزة اليوم في المزاد العلني كأنها أرض خلاء! يتواصل اللعب بالأسماء، وتتواصل الإعلانات لتؤجج نيران الحرب العدوانية المتواصلة.
يكشف طوفان العودة المكثفة للفلسطينيين المهجّرين إلى قطاع غزّة ما يتمِّم “طوفان الأقصى”، ونتعلم منهما معاً أنه لا يمكن إبادة الفلسطينيين، ولا يمكن تهجيرهم لا من ديارهم ولا من أراضيهم
أُعْلِنت الهدنة المؤقتة، لكن المؤتمر الصحافي الذي رحب فيه الرئيس الأميركي العائد برئيس وزراء الكيان الصهيوني أعلنت أن الحرب متواصلة، ويمكننا أن نقترب من بعض المعطيات التي يمكن أن تساعد في تفسير بعض مستجدّات اللغة المباشرة، التي تكشف عنها تصريحات الصهاينة ومن يقف وراء مشاريعهم، في الإبادة والتهجير والتطهير العرقي، ونحن نعتقد أن مختلف التحولات الجارية اليوم في موضوع القضية الفلسطينية ترتبط بالمتغيرات الدولية والإقليمية التي يعرفها العالم، كما ترتبط بالتحولات الجارية في المحيط العربي. ويحق لنا أن نتساءل ونحن نعاين تصريحات ترامب، ماذا فعل العرب وهم يتابعون الصوَر الجديدة للحرب القائمة؟ وماذا فعلوا لإسناد الصمود الفلسطيني في المقاومة الجديدة، وفي كيفيات زعزعتها بكثير من الأوهام الصهيونية؟
يحصل ما أشرنا إليه باختزال شديد، في زمن أوقف فيه الكيان الصهيوني تنفيذ إجراءات الحكم الذاتي، وأصبح يحلم بضم الضفة الغربية، ولم يتوقف عن التخطيط لمستوطنات جديدة، دون أن ننسى مشاريعه في التطبيع، وفي مزيد من التغلغل السري والعلني في المجتمعات العربية.. ووسط كل مظاهر الحرب المتواصلة زمن الهدنة، نُسجل أن طوفان العودة الحاصلة بعد وقف إطلاق النار، يساهم في إرباك أحلام الصهاينة، حيث تشكل عودة قوافل المهجّرين إلى قطاع غزة، عودتهم إلى خيمة فوق أرض فلسطين، ما يساهم في رسم الملامح الكبرى لرمزية الصمود والمقاومة. لا يهتم المقاومون والعائدون إلى فلسطين بشطحات ترامب، يعانقون حنينهم وآمالهم في العيش فوق أرض الآباء والأجداد، حتى عندما تكون قد تحولت إلى خراب، وهم ويتطلعون إلى التحرير والاستقلال، رغم كل العوائق والصعوبات التي تقف في طريقهم.
كيف نفسر التصعيد المتواصل للمشروع الصهيوني؟ التصعيد الذي يعكسه الدمار الذي ألحقته الصهيونية بالفلسطينيين في غزة، والتصعيد الذي تكشف بعض أبعاده تصريحات ترامب أخيراً؟ ونتصوّر أن عوامل عديدة يمكن أن تساعد في فهم آليات الحرب الجارية، بعضها يرتبط بمآلات الوضع الفلسطيني بكل ما يحمله من الآثار التي أنتج جوانب منها اتفاق المبادئ (1993)، وبعضها الآخر يرتبط بأوضاع العالم العربي، ومن دون إغفال التحولات الجارية في العالم، نتبيّن طبيعة التحوّلات التي تصنع اليوم، جوانب من مآلات ما يجري فوق أرض فلسطين.. لقد تحوّل المشرق العربي في السنوات الأخيرة إلى مختبر جديد لبناء ديناميات جديدة في العلاقات الدولية، وبدأ التنافس بين قِوى إقليمية ودولية عديدة لترتيب خيارات ومواقف قادرة على استيعاب بعض نتائج ما يجري.
مخطئ من يعتقد أن تدمير قطاع غزّة، وكل جرائم الحرب التي مارستها إسرائيل ومن معها، سيطفئ جذوة شرارات التاريخ الجديد الذي صنعه الطوفان الفلسطيني
لم نعد نواجه اليوم في العالم العربي فشل الانفجارات التي حصلت منذ سنوات، وترتّبت عليها عودة الاستعمار في صوره المجسّدة في أشكال التكالب الإقليمي والدولي على مجتمعاته. نواجه اليوم صور الارتباك والتراجع الحاصلين في مختلف مظاهر الواقع العربي، وفي مختلف التطلعات التي حملتها أجيال من نخبه السياسية. ونتصوَّر أن التدهور المستمر في الحالة العربية يكشف عجزنا عن مواجهة القوى الإقليمية والدولية، وعجزنا عن مواجهة ذواتنا.. تفهم شطحات ترامب ضمن التدهور العام الذي يسود في أغلب المجتمعات العربية، حيث تجري داخل دوائر هذا الوضع محاصرة الشعب الفلسطيني من طرف الصهاينة وقِوى الغرب، الذي يقف معهم في خندق واحد، رافعاً شعارات الإبادة والتهجير، ولا يتردّد ترامب في تعزيز دوائر التطبيع، فيطلب تهجير الفلسطينيين إلى كل من مصر والأردن، وتحويل جزء من أرض فلسطين إلى ممتلكات صالحة للاستثمار السياحي العالمي.
يكشف طوفان العودة المكثفة للفلسطينيين المهجّرين إلى قطاع غزّة ما يتمِّم “طوفان الأقصى”، ونتعلم منهما معاً أنه لا يمكن إبادة الفلسطينيين، ولا يمكن تهجيرهم لا من ديارهم ولا من أراضيهم، فهم في فلسطين باقون.. وأساطير الصهاينة المرتبة من القوى الغربية في سياق حسابات دولية، لم تعد مجدية.. المقاومة الفلسطينية المُجَسَّدة اليوم في طوفان الأقصى، أفق سياسي جديد تؤطره تحولات كبرى يجري تأسيسها في عالم جديد، ومخطئ من يعتقد أن تدمير قطاع غزّة وقتل أطفالها، وكل جرائم الحرب التي مارستها إسرائيل ومن معها، سيطفئ جذوة شرارات التاريخ الجديد الذي صنعه الطوفان الفلسطيني.
المصدر: العربي الجديد