
ما يزال أقطاب الحكم الجديد في سورية مصرّين على تصنيف الاقتصاد السوري في عهد الأسد الأب والابن اشتراكياً، محمِّلين إياه المشكلات الاقتصادية التي تعانيها البلاد حالياً. وكان آخر ما جاء في هذا السياق، ما قاله الرئيس أحمد الشرع، لـ”تلفزيون سوريا”، قبل أسبوعين، في إطار حديثه حول اعتزام حكومته تبني اقتصاد السوق الحر نظاماً لحل مشكلات البلاد الاقتصادية. وبينما يُعدُّ تشخيص المشكلات تشخيصاً صحيحاً الخطوة الأهم التي يجب توفرها من أجل الحل، يُعدُّ التدقيق الجيد في هوية البلاد الاقتصادية خلال الحكم البائد ضرورياً لتجنّب أخطاء، قد تواجه مهمة إنقاذ البلاد من حالة الانهيار التي سبّبها نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد، خلال العقدين الأخيرين من حكمه.
وكان رئيس الحكومة السورية المؤقتة، محمد البشير، أول من صنف الاقتصاد السوري في فترة الحكم السابق اشتراكياً، وأشار إلى ضرورة التحول إلى اقتصاد السوق الحر، من أجل القطع مع نهج النظام السابق. ثم أدلى وزير الخارجية، أسعد الشيباني، في هذا الشأن وتحدَّث عن الموضوع مراراً، وكذلك فعل وزير الاقتصاد. أما الراصد لهذه الأحاديث فسيعتقد جازماً أن سورية كانت بلداً اشتراكياً صرفاً، وهو ما لم يحدُث يوماً. كما أن هذا التشخيص استدعى ظهور دراسات ومقالات صحافية ومنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي، تفند جميعها هذا التصنيف. وتعيد تلك الكتابات تذكيرنا ببديهيات جديدها أخيراً دَهوَرة نظام بشار الأسد الاقتصاد السوري وإيصاله إلى حافة الانهيار، عبر إدارته، خلال السنوات الأخيرة، الاقتصاد بأسلوب المافيات لتغطية مصاريف حربه على السوريين، وفرضه الخوات على شريحة واسعة من الصناعيين والتجار وتحصيل الإتاوات من قطاع شحن البضائع، علاوة على فرضة التحاصص على كثيرين. إضافة إلى ذلك، اعتمد النظام على صناعة حبوب الكبتاغون المخدرة وأغرق دولاً كثيرة بها، حتى إنه تبوأ مركزاً عالمياً متقدماً في هذا المجال، وذلك من أجل زيادة ثروة العائلة الحاكمة والدائرة المحيطة بها، ومن أجل الإيفاء بالتزامات الحكومة تجاه قطاع الجيش والأمن، وغيرها.
أما الفترة التي سبقت الحرب، خصوصاً فترة الأسد الأب، فقد كان اقتصاد البلاد هجيناً خلالها، تبنى النهج الاشتراكي شكلياً في أدبيات حزب البعث، لكنه اتبع اقتصاد رأسمالية الدولة، ثم وصل مع تقدّم حافظ الأسد في الحكم الديكتاتوري، إلى اتباع نهج “رأسمالية المحاسيب”. حينها أخذ نظام حافظ الأسد، واستمر ابنه بشار من بعده، يشرِّع القوانين على مقاس تجار واقتصاديين في المدن الكبرى، ومن يدورون في فلك النظام والعائلة الحاكمة، مع توزيع المناقصات والأعمال التجارية والإنشاءات وعمليات التصدير والاستيراد على تجار يصنعونهم أو تجار قائمين، في إطار التحاصص وتوزيع الحصص لربط الاقتصاد برمته بالنظام وأزلامه، بعد اختصار النظام السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية جميعها بيده لإصدار التشريعات التي تناسب هذا النهج، ونشر الفساد والإفساد وتعطيل القانون.
إذا فشلت برامج الخصخصة في حل المشكلات القائمة، أو في رفد خزينة الدولة بعوائد الاستثمار والتخصيص، فتتولد مشكلات جديدة تعجز الحكومات عن حلها
قبل أن يُسقِط النظام كلمة “اشتراكية” من دستور 2012، سار بشار الأسد بالاقتصاد إلى مرحلة أكثر وضوحاً، حين أقر حزب البعث، سنة 2005، التحوّل إلى ما سماه اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي لم يكن اجتماعياً البتة. لقد كان الهدف من إقرار هذا النهج إشراك القطاع الخاص، من التابعين للأسد، في جميع الأعمال التجارية والإنشائية، وتحقيق هيمنة النظام على اقتصاد البلاد، ما انعكس غياباً للتنمية وتراجعاً لبعض الصناعات لصالح الاستيراد، وانحسار الأراضي الزراعية وهجرة سكان الريف إلى المدينة بعد زيادة كلف الزراعة. وقد أدّى هذا النهج إلى زيادة الفوارق الطبقية، مع تآكل الطبقة الوسطى وتراجع مستوى معيشة المواطنين، وهو ما سبّب بمجمله اندلاعَ ثورة الكرامة سنة 2011.
وفي ما يخص موضوع تبني اقتصاد السوق الحر، ربط أركان النظام الجديد بينه وبين أتباع الخصخصة لإنجاح هذا النهج. وتُعد الخصخصة عند بعضهم الخطوة الأسرع لحل مشكلات البلاد القائمة، بسبب ترهل المؤسّسات الاقتصادية لتحسين أدائها. وهذه الخطوة هي الأسهل من خطوات أخرى تتبعها حكومات كثيرة وتعتقد أنها قادرة على مساعدتها في التغلب على مصاعب بلدانها الاقتصادية، وتقلل من أعبائها وتجتذب الاستثمارات. لكن هذا النهج كان يأتي، أحياناً، بنتائج عكس المرجوّة منه، حين يبدأ بتوليد مشكلات اجتماعية ومالية مع تسريح أعداد هائلة من القوة العاملة، والتسبب بظهور تفاوت اقتصادي واجتماعي، وبيع القطاع العام المنتج، أو القطاع السيادي من قبيل المرافئ والمطارات والاتصالات وقطاع النقل البري، بما فيه القطارات والطرقات السريعة، وكذلك مصانع الطاقة وقطاع النفط والثروات الباطنية، وهي قطاعات غالباً ما تتمسك أكثر الدول الرأسمالية راديكاليةً بملكية قسم منها.
وفي هذا الإطار، لم يتم الإفصاح عن القطاعات التي ستجري خصخصتها، رابحة أم خاسرة، وهل سيجري بيع جميع أصول الدولة والخدمات التي تمتلكها؟ كما من غير المعلوم إن كان سيجري الاحتفاظ بالقطاعات السيادية، أم سيتم اللجوء إلى عملية “تحليل الأصول” لتحديد القطاعات التي يفضل خصخصتها، لمنع بيع الرابح منها وترك الخاسر، مثلما جرى في دول أقدمت على اعتماد الخصخصة؟ كما أن ثمة محاذير تتعلق بلجوء الحكومات إلى الاستدانة من الصناديق الدولية، إذا فشلت برامج الخصخصة في حل المشكلات القائمة، أو في رفد خزينة الدولة بعوائد الاستثمار والتخصيص، فتتولد مشكلات جديدة تعجز الحكومات عن حلها، فتدخل في طور من الاضطرابات الاجتماعية والسياسية.
كان اقتصاد سورية في فترة الأسد الأب هجيناً، تبنى النهج الاشتراكي شكلياً في أدبيات حزب البعث، لكنه اتبع اقتصاد رأسمالية الدولة
ومن ناحية التشريع، لا تملك الحكومة المؤقتة، أو حتى الانتقالية، الحق في تقرير هوية اقتصاد البلاد، لأن هذا الأمر يحتاج إلى حكومة منتخبة ودستور سارٍ. كما لا تملك الحق في خصخصة بعض القطاعات الإنتاجية أو كلها، ولا يحق لها تسريح العمال. وهي قرارات استعجلت الحكومة المؤقتة للبت بها قبل الوصول إلى المرحلة الانتقالية، وحتى قبل إقرار “إعلان دستوري” للبلاد بعد تعطيل العمل بالدستور. لذلك من الأفضل لهذه الحكومة تأجيل القضايا الخلافية إلى ما بعد إقرار الدستور الجديد المأمول، وبعد إجراء انتخابات نيابية ورئاسية، وتعيين حكومة جديدة، منعاً للطعن في شرعية قراراتها، وكذلك منعاً للنظر إليها باعتبارها قرارات أمر واقع.
عادة ما تحوِّل الخصخصة الاقتصاد إلى اقتصاد ريعي يقوم على الخدمات وعلى جني الضرائب، إذا ما جرى تخصيص القطاعات الرئيسية. ومن ثم، ينعكس الأمر على الدولة فيضعفها ويجعل قرارها السياسي في أيادي القوى الاقتصادية الناشئة، والتي تكون قد راكمت ما جنته من الفوائد من عملية الخصخصة، وحزمت حقائبها لمغادرة البلاد إذا ما اشتبهت بقلاقل تقلق راحتها.
المصدر: العربي الجديد