من بين فرث هذا المخاض العسير المشرّب بالدم والدموع في السودان، يتخلّق جنين مشوّه القسمات. من بين براثن العنف، الأنقاض والحطام والغبار، يتشكّل غدٌ غير مؤطّر الأبعاد. تلك صورة يعتصرها ارتجاج الأحداث داخل رحم المشهد السوداني الراهن. تؤكّد خريطة الاقتتال تقهقر “الجنجويد” أمام تقدّم الجيش وحلفائه. لكن هذا التقدم إن رجّح موازين القوى لصالح الجيش فإنه لا يُطمئن بنهاية القتال، فانحسار المعارك لا يعني إحلال السلام، كما قال الجنرال جياب أيقونة حرب فيتنام. جيوب الإنتشار ومواقع التمركز توضّح أننا مقبلون على مرحلة اقتتال الجبهات المتنقلة والبؤر المتفجّرة على امتداد خريطة السودان. تلك حلقة مجهولة الأمد، ما يعني إطالة أوان هذه الحرب اللعينة. الصبر ظلّ السلاح المشترك. الآن، فُتحت جبهات القتال بالألسن مبكراً من أجل حصد الغنائم!.
***
حتماً يطول الجدل من المنظور العسكري في شأن الاستراتيجية والتكتيك من حيث النجاح والإخفاق، فممّا لا شك فيه ارتكاب قادة الجيش خطايا فادحة في ما يتصل بتقدير المواقف إزاء بناء المليشيا وتسعيرها. كما أن حماقات “الجنجويد” دفعتهم إلى الانتشار على رقاع متباينة المسافات من الوطن. وفي سياق انتهاج تكتيك الإنهاك المتبادل، أفلح الجنرالات في استنزاف “الجنجويد”، وتلك ميزة منحت الجيش فرص التحشيد، استجماع القوة، استتفار الكتائب، استزادة السلاح. بعدئذٍ أمسى الجيش قادراً على المبادأة والمباغتة. هكذا جاء تقدّم الجيش مقابل انسحابات (هزائم) الجنجويد. وفي غياب القدرة على الحسم النهائي، تطول عذابات الشعب ويستمر التدمير، فلا يزال الرهان واهناً على مؤشر إلى سكون العمليات العسكرية.
***
من الرؤية الفكرية، لا يمتلك “الجنجويد” أيديولوجية أو عقيدة عسكرية تعزّز مغامرته القتالية. لذلك ينطبق عليهم مقولة الجنرال الفيتنامي “إذا قاتل المرء من أجل النهب والاغتصاب يُصاب بالإنهاك إذا امتلات جعبته أو شهوته”، فما بالك إذا لم يعد يجد ما يُسلب أو يُغتصب. فهو حطام على ركام حطام يواجه مشقّة في التزوّد بالزاد، وربما بالذخيرة، فتباعد رقاع الانتشار أنهكت خطوط الإمداد. إبّان الحرب، لا توجد منطقة وسطى للفرجة، فكما أن نتائج الحرب لا تنحاز دائماً لأصحاب الحق، فلا مكان للحياد. الموقف من الحرب نفسها انحياز للحق أو الباطل، الخير أو الشر، لكن الجلوس على شرفة الفرجة هو اصطفافٌ إلى جانب القوي.
لا يمتلك “الجنجويد” أيديولوجية أو عقيدة عسكرية تعزّز مغامرته القتالية
***
من الزاوية السياسية، يصعب الرهان على بناء دولة خارجة من رماد هذه الحرب النتنة، قادرة على بسط السلم الاجتماعي والاستقرار. أمّا مهام إعادة البناء وإطلاق التنمية، فتتطلب شروطا وطنية ليست في الإمكان. مستهلّ الجدل في هذا الصدد يدور حول تركيبة الدولة الخارجة من تحت الأنقاض، ومدى قدرتها على بسط سلطتها، فهل ينحصر سلطانها داخل المساحات المستردّة (المحرّرة) من قبضة “الجنجويد” أم يرتهن إلى بلوغ انتصار شامل؟ البحث عن إجابة شافية على هذا التساؤل يحدّد أوان حلقة الجبهات المتنقلة والبؤر المتفجّرة من مسلسل الحرب الحمقاء. كيفما جاءت الإجابة فالمؤشّرات راسخة بانتكاسة سياسية إلى منصّة 1989 (انقلاب عمر البشير) فنحن أمام خيار قسري يضع مقاليد الأمور بيدي سلطة أكثر شراسة في ممارسة العنف ضد الخصوم الفعليين والمحتملين. فعمليات القمع الوحشي، المذابح الشنعاء ولقوائم قيد من يُصنّفون (متعاونين) تجسّد بدايات حرب التصفيات.
***
قدر القوى المدنية السياسية يضعها، وهي في أكثر حالاتها إنهاكاً، تجريفا وتفكّكا، في مواجهة قوى أشد عداوةً وتطرّفاً من بنية دولة 1989، فقوام هرم السلطة الخارجة من بين الأنقاض رجال وشباب مشرّبون بثقافة العنف من التبخيس، مروراً بالتنكيل انتهاءً إلى التقتيل. هذا جنينٌ مشوّه القسمات يعد له عبد الفتاح البرهان مهداً مفروشا بالإملاءات وأقمطة دموية، فمطالبة البرهان الساسة بالتبرؤ من “الجنجويدية” ليست فقط كشفا عن تشوّهات الجنين، بل هي فتح الطريق أمام الردّة إلى منصة 1989 وإملاء الشروط. ينتزع البرهان بهذا النداء حقّ الوصاية على الشعب والدولة. هي محاولة يائسة للظهور في دور البطولة والهروب، في الوقت نفسه، من المساءلة. البرهان مطالب بالتطهُر من خطايا وآثام تفوق الحصر، اقترفها في حق الشعب والدولة. لعل أحد تلك الآثام صناعة “الجنجوجد” وتسمينهم، ثم جريمة الانقلاب ( 2021)، فعار ترك المدنيين مكشوفين أمام الذئاب.
***
لئن تكن الحرب شرّاً، فإنها لا تلد إلا شروراً. الاستبداد هو أكثر مواليد الحرب شروراً، فهو المحرّض الأشرس على نشر العنف وممارسته باعتباره الوجه الظلامي الحقيقي للاستبداد. هذه ثقافة منصّة 1989، صناعة العسكر والمتطرّفين. تحت جُنح هذه الثقافة الآتية حتماً لن يصمد من يرفع شعار المهاتما غاندي (نكسب معركتنا بقدر ما نقتل رغبة القتل داخل نفوسنا، وليس بعدد ما نقتل من خصومنا)، فالساسة المدنيون لن يجدوا منصّة يجرؤون عليها بالقول “يمكن إصلاح حال البلد بالاحتجاج فقط لا بالاقتتال”، لكنهم يواجهون عدواً يرفض التسليم بـ”ألا انفصام بين الحرية والسلام”. وقتئذٍ، على حملة قبس التنوير إنشاد مقولة الدرويش الفلسطيني “لا أعلم من باع الوطن/ لكنني رأيت من قبض الثمن”.
المصدر: العربي الجديد