مدينة منبج ضحية الملغمات والمرجعية المزدوجة

حسن النيفي

في صبيحة الثامن من شهر كانون الأول/ديسمبر الماضي، وتزامناً مع هرب بشار الأسد واندحار نظام الإبادة الأسدي، غادرت قوات قسد مدينة منبج، وانكفأت عند بلدة سد تشرين جنوباً على بعد 15 كيلو متراً عن مركز المدينة، في حين انكفأت شرقاً عند جسر “قرة قوزاق” على بعد 30 كيلو متراً عن المدينة ذاتها، وذلك على أعقاب حشود عسكرية لفصائل “الجيش الوطني” مدعومةً بغطاء جوي تركي تقدمت من مدن وبلدات الشمال السوري ودخلت مدينة منبج التي رزحت تحت سلطة قوات قسد قرابة ثماني سنوات (آب 2016 – كانون الأول 2024).

التحرير المنقوص

وفي الوقت الذي ازدانت به المدن والبلدات السورية بالأعلام الخضراء ابتهاجاً بيوم النصر العظيم، استبدّت نشوة النصر ذاتها في نفوس أهالي منبج الذين خالوا أن مدينتهم ستحتفل بنصر مزدوج، تحرير البلاد السورية من براثن الطغمة الأسدية، وعودة مدينتهم إلى أهلها بزوال سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي التي لم تكن ترى في منبج طوال سنوات خلت سوى بقرة حلوب لم يُترك منها سوى جلدها وهيكلها العظمي من جهة، وحيّز جغرافي صالح للاستثمار بكل أشكاله من دون أي حساب يُذكر للمواطنين الذين لم يكن حالهم ليختلف كثيراً عن أقرانهم تحت أي سلطة من سلطات الأمر الواقع من جهة أخرى، إلّا أن لهفة المنبجيين لمشاركة أقرانهم السوريين بفرحة النصر لم تكتمل، فما إن انسحبت قوات قسد من المدينة حتى حلّ مكانها فصائل أخرى من الجيش الوطني تنضوي في غرفة عمليات “فجر الحرية”، وكان من المفترض أن يكون قدوم هذه الفصائل التي جاءت من الشمال السوري باعثاً للطمأنينة والأمان لدى المواطنين، وأن تكون أكثر رحمةً بل أكثر حرصاً على تامين السلامة والأمن والحفاظ على الأرواح والممتلكات، وذلك بحكم انتمائها إلى مشروع الثورة من جهة، وكذلك بحكم دورها التحرّري الذي دخلت المدينة من أجله من جهة أخرى، إلّا أن واقع الحال قد أظهر خلاف ذلك، إذ ربما وجدت تلك الفصائل الوافدة باسم التحرير في مدينة منبج المغنمَ الأخير في مسيرتها التحريرية، فانفلت عقال العديد من عناصر تلك الفصائل ليتسلّطوا على السكان ويمارسوا أشكالاً متعددة من السطو والاعتداء على الممتلكات وتهديد السكان وترويعهم وسلب السيارات والدراجات النارية فضلاً عن اقتحام حرمات البيوت، بل وقد تجرأ البعض على الاعتداء على الممتلكات العامة كالمشافي ومحطة الكهرباء بهدف سرقة محتوياتها من معدّات ونقود وسوى ذلك. من جهتها تؤكّد الفصائل العسكرية أن مرتكبي هذه الجرائم المشينة ليسوا من ضمن صفوفها، بل هم عبارة عن لصوص وعصابات سطو تحاول انتحال الصفة العسكرية خلال الاعتداء على السكان، ربما يكون هذا الكلام صحيحاً، ولكن الصحيح أيضاً أن تلك الفصائل لم تبذل الجهد المطلوب للقبض على هؤلاء ومحاسبتهم، بل ربما كان جوابهم الدائم لإسكات أي احتجاج أو شكوى من المواطنين: “نحن نرابط على الجبهات ونقدّم الأرواح والدماء في مواجهة قسد، واتهامنا بممارسات مشينة هو ضرب من انعدام الضمير بل ربما الخيانة”. يمكن لنا أن نستثني عدداً لا بأس به من عناصر تلك الفصائل، والذين هم في الأصل من أبناء المدينة، وقد حاولوا بالفعل التصدّي لشتى مظاهر الانفلات، وحاولوا قدر المستطاع الدفاع عن أهلهم وأبناء بلدهم، ولكن عددهم وعتادهم المحدود لم يقوَ على مجابهة حيتان الخراب.

كان من المفترض أن يكون قدوم هذه الفصائل التي جاءت من الشمال السوري باعثاً للطمأنينة والأمان لدى المواطنين، وأن تكون أكثر رحمةً بل أكثر حرصاً على تامين السلامة والأمن والحفاظ على الأرواح والممتلكات

الإدارة المدنية.. تحديات قاهرة

لقد خرجت قوات قسد من منبج ولكنها ظلّت تحتفظ بطاقة هائلة من الانتقام الذي بلغ ذروة الشناعة حين انصبّ على المواطنين المدنيين الذين باتوا ضحايا للملغمات التي تباغت الأرواح ولا تميّز بين طفل أو امرأة أو شيخ، وكان انفجار آخرها حتى كتابة هذه السطور، يوم الإثنين الموافق للثالث من شباط/فبراير الجاري، والذي أفضى إلى مجزرة كبرى راح ضحيتها  20 امرأة ورجل واحد وإصابة 20 أخريات، وكان قد سبقها انفجار ملغمة أخرى قبل يومين أودى بحياة 4 مواطنين وإصابة 7 آخرين، وقد بلغ عدد الملغمات التي استهدفت المواطنين المدنيين منذ الثامن من شهر كانون الأول وحتى الرابع من شباط، 6 ملغمات.

حالة الفوضى والانفلات الأمني التي يعزّزها انفجار المفخخات المتلاحقة، تزامناً مع انعدام شبه تام للخدمات الأساسية ( كهرباء، ماء، ونقص في الطحين، خروج عدد من المشافي عن الخدمة) كل ذلك جعل المدينة في حالة من الضياع فضلاً عن البؤس الناتج من تواتر الأخطار وتراكمها، ما دعا إلى مبادرة لعدد من ناشطي المدينة وثوّارها ومثقفيها إلى تشكيل “إدارة مدنية” تهدف إلى مأسسة العمل الخدمي وتقديم ما يمكن تقديمه من تنظيم للحالة المدنية من خدمات سواء على مستوى الصحة أو التعليم أو النظافة و تيسير شؤون المواطنين الإدارية والبلدية الأخرى، إذ يمكن لهكذا مبادرة أن تسهم في التخفيف من عبء الفوضى التي تجتاح المدينة، إلّا أن هذه المبادرة ظلّت تنوء تحت ضعف الإمكانيات وعدم توفر الدعم اللازم للنهوض بالواقع الخدمي، وكذلك تعاني من تغوّل بعض الفصائل العسكرية التي ترى أن السلاح الذي تملكه هو القاهر لجميع القيم الإنسانية وليس المنافح والمدافع عنها. ولعل أبرز التحدّيات التي تواجهها الإدارة المدنية:

منبج، التي كان كثيرون ينتظرون أن يزدهي يوم النصر العظيم بقصائد شعرائها ولوحات فنانيها وكلمات حكمائها ومثقفيها وثراء فولكلورها، هي اليوم تشيّع شهداءها من ضحايا الملغمات نهاراً، وتداري خوف أطفالها ونسائها من سطوة اللصوص وعديمي الضمير ليلاً.

أولاً، المرجعية المزدوجة: إن قرار القيادة السورية الجديدة بحل جميع الفصائل العسكرية وإدماجها في هيكل واحد يتمثل بوزارة الدفاع، كان من المفترض أن يؤدي إلى حلول قوى أمنية تابعة للسلطة المركزية (شرطة، أمن عام) إلى جميع المدن والبلدات السورية لتولّي مهام الحفاظ على الأمن العام، لكن استمرار المعارك والمواجهات العسكرية بين الجيش الوطني وقسد جعل جميع المناطق والبلدات في الشمال، والشمال الشرقي لسوريا تحت النفوذ التركي، وذلك بحكم التنسيق القائم بين الحكومة التركية وفصائل الجيش الوطني التي لا ترى أنها معنيّة بالشأن المدني، بل مهمتها محصورة بالجانب القتالي فقط، وحين بادرت الإدارة المدنية بالتواصل مع القيادة الجديدة للبلاد ومطالبتها بتحمل مسؤولياتها الأمنية والمدنية حيال المدينة، كانت استجابة القيادة المركزية باهتة، إذ اقتصرت على إرسال عدد من عناصر الأمن العام الذين عاملوا الإدارة المدنية باستعلاء من دون مؤازرة حقيقة أو تنسيق يمكّن هذه الإدارة من ممارسة عملها الوظيفي بالشكل المطلوب.

ثانياً، الحاجات المعيشية والخدمية التي باتت مطلباً يلحّ عليه المواطنون، وهو مطلب في غاية المشروعية، إلّا أن الاستجابة مشروطة دوماً بتوفر الإمكانيات التي تبدو خارج قدرة تلك الإدارة في ظل غياب أي جهة داعمة سواء حكومية رسمية أو أية جهة أخرى، الأمر الذي يحصر دور الإدارة المدنية بتلقي سخط المواطنين الناتج عن البؤس المعيشي من جهة، وكذلك بتحمّل ما تمارسه بعض الفصائل العسكرية من تغوّل من جهة أخرى.

منبج، التي كان كثيرون ينتظرون أن يزدهي يوم النصر العظيم بقصائد شعرائها ولوحات فنانيها وكلمات حكمائها ومثقفيها وثراء فولكلورها، هي اليوم تشيّع شهداءها من ضحايا المفخّخات نهاراً، وتداري خوف أطفالها ونسائها من سطوة اللصوص وعديمي الضمير ليلاً.

المصدر: تلفزيون سوريا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى