سبق أن سمعتُ هذا السؤال في أمستردام، أين الأمسترداميون في أمستردام؟ كذلك يمكن أن تسأل عن الأتراك في إسطنبول بخاصة في منطقة الفاتح، حيث صدقت البلدية هناك هذا السؤال، وباتت تغير أسماء المحال بحيث إنك ربما بتَّ تجد حروفاً عربية في أمستردام أكثر مما تجدها في إسطنبول مثلاً؟
وجدتُ هذا السؤال كذلك في دمشق من صديق عربي، وهو يبحث عن رجال ونساء مسلسل باب الحارة في دمشق، وكانت بالمصادفة تجلس معنا صديقة شامية قائلة: الشام “تريفنت” منذ مطلع الستينات من القرن الماضي على مراحل!
مفهوم المدن في سوريا يختلف اختلافاً كبيراً عن مفهوم المدن في مصر، فالنقل الطرقي والتواصل بين المحافظات السورية في الخمسين سنة الفائتة يختلف عما قبله، لذلك باتت المدن الكبرى في سوريا بخاصة دمشق وحلب مكاناً للتنوع البشري السوري. وهو من علامات زوال الحذر بين السوريين، يمكن لكتاب سوري أن يحتوي على آلاف القصص إن أراد تدوين سرديات أبناء الأرياف السوريين في زياراتهم للمدن السورية وما مروا به من تجارب أولى، وعلى الرغم من ذلك تبقى كثير من المدن السورية أقرب إلى أرياف كبيرة بالمفهوم العمراني إن قارناها بمفهوم المدن الكبرى في العالم.
ثورة 2011 في سوريا كانت سبباً رئيسياً لأول مرة في التاريخ السوري لكي يتعرف السوريون إلى بعضهم بعض، بمعنى من المعاني عجنت السوريين وتعرفوا إلى بعضهم خارج إطار الصور النمطية التي شكلوها عن الآخر السوري.
كثير من العواصم في مدن العالم تفتخر بأنها مدن كوزموبوليتية، بمعنى متعددة ومتنوعة بجنسيات وأعراق مختلفة، لكنها قبل الوصول إلى ذلك التنوع العالمي كانت مكاناً لتعدد مواطني بلدها، وأحسب أن ما تمر به دمشق اليوم مرحلة كانت تحتاجها منذ زمان، كقدر تعيشه العواصم.
السؤال يريد أن يقول: لماذا لا يجلس أبناء كل منطقة في منطقتهم، أو يقضون حاجاتهم الخدمية أو الطبية في دمشق ثم يعودون إلى بلداتهم ومدنهم؟
الإجابة متشعبة جداً، إذ إنني أحسب أنه لو توفرت الخدمات في سوريا وكان هناك نظام رقمي وحكومة إلكترونية ووجدت مشاف كافية في كل منطقة أو محافظة لما وجدت هذا الكم من السوريين في دمشق أو حلب، حيث إن قدومهم إلى دمشق يعني مصاريف زائدة أقلها تكاليف السفر والإقامة والطعام.
من جهة أخرى يعني كذلك حركة تشغيلية للمطاعم والأسواق والفنادق في دمشق، بمعنى أنه هناك قطاع في دمشق أو سواها من مدن أخرى سورية يعيش على وجود هؤلاء القادمين!
قد يحمل السؤال دلالة أخرى: هناك كثيرون اليوم في دمشق ينامون تحت الجسور وفي مداخل عدد كبير من البنايات وسط المدينة (المرجة وما حولها مثلاً) بمعنى آخر: هؤلاء لا يحركون الاقتصاد بل يخربون صورة المدينة حيث يقومون بالشحاذة أو انتظار فضلات الأطعمة!
البلد خرج من حرب طويلة، اقتصاد منهك، وشعب مدمرة بيوته، والسؤال: من سيترك أهله وحيه وقريته ليذهب للعيش في مدينة أخرى على الأرصفة إن لم يكن ظرفه صعباً؟ أو ربما استسهال نمط العيش؟ لقد سمعت من كثيرين قطنوا دمشق وريفها أنهم لن يعودوا لأن نمط الحياة في دمشق “غير”! وقد تعبوا من نمط الحياة في قراهم هناك حيث تقيدهم الحياة العائلية أو العشائرية بقيود كثيرة أو تفرض عليهم واجبات كبيرة لا يستطيعون تحملها اليوم!
هنا دور منتظر كبير للدولة والمبادرات الأهلية، نحو إيجاد حلول دائمة، والبحث عما دفع أولئك السوريون نحو هذا المنحى المعيشي.
في هولندا يوجد 33 ألفاً من المشردين، لكن الدولة تؤمن لهم مبيتاً، ولديها “داتا” عنهم بحيث لا يشكل أولئك خطراً على المجتمع وكي لا يكونوا جزءاً من مافيا أو جريمة منظمة، هل هناك فكرة بإيجاد “داتا” أو طريقة ما لكي نحصي ممن ليس لديهم بيوت أو ينامون على الأرصفة؟ علينا ألا ننتظر دائماً جهود الدولة، يمكن للمبادرات المدنية أن تسعى لتحقيق ذلك.
لا عودة للمدن في سوريا وسواها إلى حالة “الصفاء المكاني” بحيث يعود أبناء كل محافظة إلى محافظتهم، لأن السوريين اليوم ارتبطوا بعلاقات جديدة بعد ما حدث من حالة عجن وخبز في مرحلة الثورة، كذلك يرتبطون بمصالح اقتصادية واجتماعية ودراسية وطبية وخدمية وسواها مع واجبات اجتماعية أقل!
لعله من الطبيعي إنْ تحدثتَ عن دمشق العاصمة ألا تتحدث عن حالة صفاء ديموغرافي”وبرة السور وجوة السور” لأن السور السوري اليوم هو الحدود الخارجية، خاصة بعد أن جرب معظم السوريين تجربة الهجرة واللجوء، وتعرفوا إلى ألوان إنسانية مهمة في كيفية التعامل مع الضحية اللاجئ من قبل مجتمعات لا تعرف عنا شيئاً، ولا ترتبط معهم بأي رابط غير الرابط الإنساني!
أين الشوام في الشام؟ قد نحتاج إلى تغيير دلالات السؤال، لندعو الشوام في الشام وغير الشام باستثارة جوانبهم الإنسانية وتجربتهم في إدارة المدينة نحو مبادرات اجتماعية تنظف واجهات البنايات وتعيد إحياء التجارب الأهلية في “حفظ النعمة” وسواها وتبحث عن حلول تقف إلى جانب الدولة في هذا الظرف العصيب الذي تمر فيه.
من جهة أخرى تحتاج جهات المحافظة الإدارية إلى إعادة التنظيم الأرصفة والفضاء العام، كي نخفف من العشوائية وعدم التنظيم الذي بات يعيق مسار الحياة اليومية.
قد يصعب قبول كثير من أفكار الاندماج السوري الجديد وتحولات الهوية السورية لدى الأجيال التي تقدم بها العمر من السوريين، لكن بالتأكيد بات قبولها أسهل بالنسبة للأجيال الشابة الجديدة التي عاشت تجارب مختلفة فيزيائياً أو من خلال العالم الرقمي والسوشالميديا
كثير من العواصم في مدن العالم تفتخر بأنها مدن كوزموبوليتية، بمعنى متعددة ومتنوعة بجنسيات وأعراق مختلفة، لكنها قبل الوصول إلى ذلك التنوع العالمي كانت مكاناً لتعدد مواطني بلدها، وأحسب أن ما تمر به دمشق اليوم مرحلة كانت تحتاجها منذ زمان، كقدر تعيشه العواصم.
أين الشوام في الشام؟ سؤال يمكن تعميمه في كل المحافظات السورية ويمكن الوقوف عنده في إدلب مثلاً: أين الأدالبة في إدلب؟
ما حدث إبان الثورة السورية أعاد تشكيل كثير من المفاهيم والمعلومات والثوابت لدى السوريين، وفي حواراتي مع عدد كبير من الشباب والصبايا السوريات في دمشق وجدت أن لديهم مرونة كبيرة في قبول بعضهم، بغض النظر عن خلفياتهم الديموغرافية.
لعل من حسنات الثورة السورية، وحسناتها لا تنتهي، أنها ساعدت السوريين في التعرف إلى بعضهم، ليس كلقاءات عابرة في مقهى، بل بالتجربة والعمل المشترك في تحقيق النصر، وكذلك في ساحات المعارك وساحات الألم واللجوء والمخيمات والتعب والتنكيل والمعتقلات.
في هولندا اليوم، من يريد أن يعيش مع مشابهين له غالباً ما يذهب إلى الريف، أما في المدن فهو يقول لك: طبيعة المدينة وبنيتها الاقتصادية والعمرانية تقوم على التنوع والتعدد والتداخل، فلماذا أبحث عن شيء يبدو بعيد المنال، ليس على المدن أن تتغير لتناسبني، ربما أنا من يجب أن يتغير أو أنزوي في قريتي، هذا خياري!
هناك من يطرح سؤال: أين الشوام في الشام؟ أو أين الحلبيون في حلب؟ على سبيل الإشارة الطبقية أو افتقاد سمات ومقاسات محددة وضعها في رأسه لمدينته أو حيه أو حارته، وهو الذي يجوب بالعالم ويرى التعدد والتنوع وأثرهما في إغناء التجارب.
أسئلة السوريين اليوم كثيرة، وهم يكتشفون أنماطاً جديدة من التفكير والعيش والحب والتواصل ويخرجون عن قوالب تفنن النظام السابق في صنعها ورعايتها أكثر من نصف قرن وكذلك كانت تعجب أجيالاً سابقة حرصت عليها كحاجة للحماية أو المحافظة على مفاهيمها القديمة، واعتادوا عليها، لذلك فإن الخروج إلى أنماط حياتية جديدة يحتاج إلى تدرب وإعادة اندماج، كأن قدرهم في العقود الأخيرة أن يخرجوا من اندماج ليدخلوا في اندماج جديد!
كانت العرب قديماً إذا أرادت إحداث اندماجات أو تحالفات بين قبائل عدة تلجأ إلى الزواج، فيتزوج شيخ قبيلة أو ابنه أو أحد وجهائها من قبيلة أخرى، ربما كان بينهما عداوة!
ولعل أحد أبرز ألوان كسر الجمود الاجتماعي بين السوريين يكمن “بالحب راح بنعمرها” والزواج، وكذلك معطيات جديدة فرضتها الظروف المعاصرة ذات أبعاد اقتصادية وتبادل مصالح وتعاون، ويمكن للأحزاب الجديدة في سوريا أن تلعب مثل هذا الدور، وأن لا تبحث عن المتشابهين جغرافياً أو إثنياً بل عن التمثيل الديموغرافي الجغرافي والفكري وضرورة استقطاب المختلفين كي لا يكون حوارنا أو تواصلنا مع من نتفق معهم، وبالتالي سنفتقد المرايا العاكسة والمحدبة والصقيلة والمكسرة.
قد يصعب قبول كثير من أفكار الاندماج السوري الجديد وتحولات الهوية السورية لدى الأجيال التي تقدم بها العمر من السوريين، لكن بالتأكيد بات قبولها أسهل بالنسبة للأجيال الشابة الجديدة التي عاشت تجارب مختلفة فيزيائياً أو من خلال العالم الرقمي والسوشالميديا حيث بات لدينا قاطنون يسكنون قارة الإنستغرام وقارة الفيسبوك وقارة السناب شات وقارة التك توك، وما أحوجنا جميعاً أن نكون مواطنين نقبل بعصنا في مدننا وحاراتنا ونتعرف على بعضنا بعض بعيداً عن حواجز قديمة عاشها أهلنا، إذ يمكننا اليوم أن نكسر السور ونتجاوز حدوده، على الرغم من صعوبة ذلك!
المصدر: تلفزيون سوريا