الترانسفير” مصطلح سياسي، يُعدّ مفتاحاً رئيساً من مفاتيح فهم الفكر الصهيوني، ويعني طرد عنصر سكّاني من محلّ إقامته وإعادة توطينه في مكان آخر. والترانسفير يعبّر عن مفهوم جوهري في الحضارة الغربية يتجاوز المفهوم السياسي، ويمكن اعتبار الظاهرة سمةً من سمات الحضارة الغربية الحديثة، فهي “حضارة الترانسفير”. واللحظة التاريخية التي يؤرّخون بها لبدء العصر الحديث شهدت واحدةً من أكبر عمليات الترانسفير في التاريخ، فتمت عملية الاستيطان الإحلالي في ما سمّي “العالم الجديد”، وبدأت بنقل الساخطين سياسياً ودينياً (البيوريتان) إلى الأرض الجديدة، وتلت ذلك عملية ترانسفير أخرى مختلفة، وإن كانت شديدة الضخامة، تمثّلت في نقل الأفارقة إلى الأميركتين لاسترقاقهم، ليكونوا وقود آلة الرأسمالية الغربية.
وطوال القرون الخمسة الماضية، لم تتوقّف عمليات الترانسفير، فنُقِل السكّان الأصليون من الهنود الحمر، وغيرهم، من أماكن سكناهم في مسلسل دموي من التهجير والإبادة، ونُقِل الفائض البشري الأوروبي إلى جيوب استيطانية عديدة، ونُقِل كثير من البشر ليتحولوا مرتزقةً في الجيوش الغربية في حروبها الممتدّة في معظم أنحاء العالم. وعندما أراد هتلر إخلاء ما سمّاه “المجال الحيوي” الألماني، أراد أن ينفّذ في قلب القارة الأوروبية ما نفّذه منافسوه الأوروبيون هناك، بعيداً في أحراج أفريقيا، وجبال الأميركتَين وصحاري أستراليا. وليس ثمّة أدنى مفارقة في قبول الصهاينة أن يرتكبوا ضدّ غيرهم (الفلسطينيين) الجريمة نفسها ببشاعة لا تقلّ عن بشاعة ستالين والنازي. ففي هذا الإطار، وبهذه الخلفية، ولد المشروع الصهيوني نسخةً مكرَّرةً من النازية.
وفي مذكّراته، قال الصهيوني حاييم وايزمان إن الاتفاق كان تسليم فلسطين خاليةً من السكّان، وهو ما أجهضته ردّات الفعل الفلسطينية على الهجرة اليهودية. على امتداد تاريخ المشروع الصهيوني تتسرّب من آن لآخر معلوماتٌ عن مخطّطات للترانسفير قيد البحث في دوائر رسمية غربية، هدفها تخليص الكيان الصهيوني من “العبء الديمغرافي الفلسطيني”، وهذه المخطّطات تتجاوز خطورتها أنها جزء من صراع سكّاني داخل الكيان الصهيوني، لتكون قنبلةً موقوتةً تهدّد استقرار المنطقة العربية كلّها. وشعار “الأردن الوطن البديل”، الذي يلوّح به علناً العديد من السياسيين الصهاينة، أشهر هذه المخطّطات، لكنّه ليس أخطرها. فالغرب (متحالفاً مع الكيان الصهيوني) ما زال يفكّر بالفعل في عمليات هندسة سكّانية في المنطقة، قد تكون سبباً في انفجارات خطيرة. وقد وردت بلسان السياسي الماروني المعروف بيار حلو عبارةً حول هذه القضية، تتضمّن معلومةً مثيرة، فقد قال في حوار معه (“الرأي العام الكويتية”، 8/11/1998): “لا يمكن أن أنسى كلام كيسنجر، الذي قاله العام 1973، والمحفور في ذاكرتي، في أن الحلّ هو أن يصبح الفلسطينيون في لبنان، والمسيحيون في كندا وأوروبا”.
الصراع على فلسطين أعاد إلى الحياة مشاهدَ من التاريخ القديم، كانت قد أصبحت حبيسة نقاشات الأكاديميين واللاهوتيين
وفي كتابه “حركة حماس.. نشأتها وعلاقتها بالإخوان المسلمين”، أورد الدكتور خالد أبو العمرين بالتفصيل قصّة مشروع تبنّاه ضبّاط ثورة 23 يوليو (1952)، مبّكراً جدّاً لتوطين الفلسطينيين في سيناء (مشروع العريش)، وكيف أدّى الكشف عنه إلى صدام كبير بين نظام عبد الناصر وشيوعيّي غزّة. وفي موقع “بي بي سي” العربي (29/11/2017) نشر الإعلامي القدير عامر سلطان تحقيقاً وثائقياً عن مفاوضات بين الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك ورئيسة الوزراء البريطانية مارغريت تاتشر، كشف فيه مبارك أنه وافق على تلبية طلب أميركي بتوطين فلسطينيين في مصر، في مقابل “إطار لحلّ المشكلة”.
والصراع على فلسطين أعاد إلى الحياة مشاهدَ من التاريخ القديم، كانت قد أصبحت حبيسة نقاشات الأكاديميين واللاهوتيين، وضمن هذه المشاهد “السبي البابلي” (أو المنفى البابلي)، وهو الاحتجاز القسري لليهود في بابل بعد غزو مملكة يهوذا (598 قبل الميلاد). واليوم يطلق الرئيس الأميركي رصاصة انطلاق مخطّط لـ”سبي بابلي” جديد، لكن للفلسطينيين، وهو موقف تدفعه غطرسة القوة لا القدرة على تنفيذه، ومن صمدوا هذه الأشهر الدامية كلّها، تحت وطأة القصف والجوع، لا يُصدّق عاقل أن يقتلعهم من أرضهم لا “إغواءً” ولا “قسراً”، واستعادة التقاليد الإمبراطورية الموغلة في القدم له مخاطره، ويجري استدعاء أشباحه في مشهد دولي معقّد جدّاً.
والذين فشلوا في حشر الفلسطينيين في زاوية “الهنود الحمر”، لن يستطيعوا إنهاء أزمة المشروع الصهيوني بـ”السبي البابلي الثاني”، بل قد يتسبّبون في تعريض دول حليفة لخطر جسيم.
المصدر: العربي الجديد