العالم وخطر حُكم الأوليغارشية

علي أنوزلا

صورة أباطرة التكنولوجيا الرقمية وأثرياء أميركا داخل مبنى الكابيتول في حفل تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب، يوم 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، ليست مثيرة للتعليقات المختلفة التي حفلت بها منصّات التواصل الاجتماعي فحسب، وإنما هي ذات رمزية عالية، لأنها تكشف عن التحالف الخطير بين هؤلاء الأغنياء الذين يملكون ثرواتٍ هائلة ورئيس ديماغوجي على رأس أعظم دولة. إنها الصورة الأكثر اختزالاً وتكثيفاً لمعنى حكم الأوليغارش، كما تحدّث عنه فلاسفة اليونان، مثل أفلاطون وأرسطو قبل آلاف السنين.

التعريف البسيط لكلمة “أولغارشية”، هو حكم الأقلية التي تحتكر المال والسلطة، ويكفي إلقاء نظرة على أعضاء الحكومة الفيدرالية الأميركية الجديدة للتأكد من أن من يحكمون الولايات المتحدة اليوم هم رجال أعمال يحتكرون المال والنفوذ. وحسب تقارير صحافية، يضمّ مجلس وزراء ترامب ما لا يقل عن 14 مليارديراً وأربعة مليونيرات، يتصدّرهم إيلون ماسك الذي يصنّف أغنى رجل في العالم يملك ثروة تُقدّر بنحو 429 مليار دولار، كما أن ترامب نفسه، وهو رجل أعمال، تقدّر ثروته بأكثر من 6.8 مليارات دولار، ويقدّر الخبراء القيمة الإجمالية لثروات أعضاء إدارته الأثرياء بما يعادل أو يفوق الناتج المحلي لعدّة دول، بما فيها فنلندا وتشيلي ونيوزيلندا. وخارج حكومته، وبعيداً عن أميركا في أوروبا والهند والصين، يسعى ترامب إلى جذب مليارديرات آخرين إلى مدار مجرّته لتشكيل ما يشبه حكومة عالمية من المليارديرات الذين يحتكرون المال والسلطة، فقد فاقت الثروة المتراكمة للأثرياء الذين حضروا حفل تنصيبه، من جميع أنحاء العالم، عدة تريليونات من الدولارات، قدّرها مراقبون بأكثر من الناتج الخام لقارّة مثل أفريقيا.

لم يعد حكم الأولغارشية الأميركية الحالية شيئاً متوهّماً، فقد حذّر منه الرئيس جو بايدن، غير المأسوف على نهاية ولايته، لما يمثله من تهديدٍ للديمقراطية والحرّيات الأساسية، ولتعادل الفرص أمام الجميع، كما حذّر منه الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل، الذي يرى في تحالف ترامب مع المليارديرات خطراً كبيراً يهدّد أسس الديمقراطية الأميركية وقيمها. وقبلهما سبق للسيناتور الديمقراطي اليساري، بيرني ساندرز، حتى قبل إعادة انتخاب ترامب، أن حذّر من التهديد المتزايد لحكم الأقلية التكنولوجية، لكن القليلين كانوا يصدّقونه حتى رأوا طبقة من المليارديرات تسيطر على حكومة بلادهم.

منح “الحرية الكاملة للذئاب غالبا ما تعني إفناء الأغنام”، وكذلك منح الحرية الكاملة للشركات العابرة للقارات يقتل بصيص الأمل عند الأشخاص العاديين في جميع أنحاء العالم

تبدأ خطورة حكم الأوليغارشية من تضارب المصالح الناتج عن زواج السلطة بالمال، لكنها تنتهي دائماً، كما سبق أن حذّر من ذلك أرسطو، بالطغيان والاستبداد. ولإنعاش الذاكرة فقط، وبدون مقارنات، لأنها ستُرعب كثيرين، فإن الدكتاتور الألماني أدولف هتلر استعان، في حملة حزبه الانتخابية عام 1933، للفوز بمنصب المستشار الألماني، بمجموعة من رجال الأعمال الأثرياء الألمان أصحاب الشركات الصناعية الألمانية الكبرى الذين دعموا حملة الحزب النازي، ما مكّنه من الحصول على أغلبية الثلثين داخل البوندستاغ (البرلمان) الألماني، ما مكّن الدكتاتور النازي من إقرار السلطات التي منحها لنفسه، والنهاية الكارثية لحكمه يعرفها الجميع.

ولا حاجة للعودة إلى ألمانيا النازية، فقد شهد العالم في العقود الماضية حروباً وكوارث عديدة سبّبها حكم “المجمّع الصناعي العسكري” في الولايات المتحدة مجسّدا في التحالف بين صنّاع القرار الأميركي وأرباب صناعة الأسلحة في أميركا طوال العقود الماضية. ومستقبلا يجب توقع كوارث أسوأ قد تنتج عن هذا التحالف الجديد المخيف بين ترامب و”المجمّع الصناعي التكنولوجي” الذي يمثله أباطرة الصناعات التكنولوجية الحديثة الملتفون حوله.

يجب ألا يُخدَع أحدٌ بخطاب ترامب الشعبوي الذي تبنّى الدفاع عن مصالح الطبقتين، العاملة والمتوسطة، خلال حملته الانتخابية، ووعد الأميركيين بعصر ذهبي، وبمزيد من الرخاء والازدهار الاقتصادي، وتعهد بإنهاء الحروب في العالم وإعادة السلم والأمن إلى العلاقات الدولية، ووصف نفسه بصانع سلام، فهذا الخطاب من مستلزمات الديماغوجية التي يستعملها المستبدّون لإغراء البسطاء من الناس، لكن من الواضح تماماً أن أولويته اليوم هي تثبيت نفسه حاكما مستبدا يُحيط نفسه بطبقةٍ من المليارديرات الشّرهين العازمين على ملء جيوبهم ومضاعفة ثرواتهم، وإلا ما الغاية من دعمهم ترامب إذا لم يَعِدهم بمنح الحرية الكاملة لشركاتهم العابرة للقارّات لزيادة احتكارها وتحكمها في الاقتصاد العالمي. وكما يقول المفكر السياسي البريطاني، الروسي المولد، ايزايا (أشعيا) برلين، إن منح “الحرية الكاملة للذئاب غالبا ما تعني إفناء الأغنام”، وكذلك منح الحرية الكاملة للشركات العابرة للقارات يقتل بصيص الأمل عند الأشخاص العاديين في جميع أنحاء العالم.

اختطف ترامب الحزب الجمهوري، وهو في طريقه إلى اختطاف أميركا، ويسعى إلى أن يختطف العالم

اختطف ترامب الحزب الجمهوري، وهو في طريقه إلى اختطاف أميركا، ويسعى إلى أن يختطف العالم بإملاء قراراته على الجميع متحدّيا سيادة الدول والقانون الدولي، كما فعل في أثناء التوقيع المسرحي على قراراته الغرائبية الأولى يوم تنصيبه، عندما أعلن تغيير اسم خليج المكسيك، وإعادة سيادة أميركا على قناة بنما، وتصريحاته حول ضم كندا وجزيرة غرينلاند الدنماركية. وأخيراً، وليس آخراً، تصريحه المستفز بتطهير غزّة من سكانها وترحيلهم إلى الأردن ومصر. راودت الأحلام نفسها هتلر الذي نظّر في كتابه “كفاحي” لضرورة توسيع المجال الحيوي للرايخ الألماني، بضمّ أراضٍ جديدة في أوروبا ومساحات جديدة في المستعمرات الأوروبية لفرض سيطرة الفوهرر (القائد) على العالم. قد تبدو المقارنة مبالغاً فيها ومستفزّة، لكن المستبدّين يصنعون هكذا من عدم، بل من الاستهانة بأفعالهم وتصرّفاتهم التي قد تبدو مجنونة، بل سخيفة أحياناً، قبل أن يتحولوا إلى مَرَدَة يهدّدون السلم والأمن العالميين.

حقيقة وجود رئيس ثري شعبوي ديماغوجي لا يُخفي معاداته المؤسّسات الديمقراطية على رأس أقوى بلد، يحيط نفسه بمجموعة من الأثرياء المتلهفين إلى مضاعفة ثرواتهم، مدعاة لإثارة القلق. وعندما نعلم أن أيديولوجيتهم اكتسبت قدراً من المصداقية في بعض الدوائر المؤثرة داخل مجتمعهم، وصارت سائدة بين عامة الناس، فهذا يستدعي دقّ ناقوس الخطر قبل فوات الأوان، لأن ما يفكّر فيه أعضاء حكومة الأوليغارش الأميركية، وما يخطّط له قادتها من أفكار غريبة وجهنمية تهدّد مستقبل ملايين البشر، بل مستقبل الأرض التي لم تعد ثرواتها تسدّ شراهتهم المرضية لتكديس الثروة، ألم يضعوا من بين أهداف حكومتهم غزو المرّيخ لاستغلال ثرواته؟! أليس هذا أحد بوادر جنون العظمة للحالات المرضية التي تستعد لحكم العالم؟!

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى