التّعليم وصناعة النُّخب في الجزائر وكلّ هذا الاهتمام

محمد سي بشير

يركّز الجزائريون، هذه الأيام، على ملف في صميم أولويّات حياتهم وحياة أبنائهم، إذ يتعلّق بالتّعليم ومخارجه، مضمونه وما يدوّن من حوله من رهانات، إضافة إلى مستقبل الملف في خضم ما نراه من تغيُّرات، على كلّ المستويات، في العالم وبكلّ تداعياته على مستقبل العمليّة التّعليمية، شكلاً ومضموناً والفاعلين فيها، معلّمين، وتلاميذ، وأولياء ووزارة، وخلفيّات تأثيراتها على صناعة النُّخب من خلال متغير التّربية والتّعليم. وعلى هذا الأساس، من الأهمّية بمكان الحديث عن التّعليم وكونه أهم مدخل تغيير اجتماعي في الجزائر، منذ الاستقلال، كما أنّه المدخل الذي من خلاله نحافظ على عملية الصعود الاجتماعي أو ما تسمّيها العلوم الاجتماعية عمليّة صناعة النّخب، تجديدها ودورانها.

تُعدّ عملية البحث في النُّخب مسألة معقّدة، خاصّة في بلد مثل الجزائر يكاد الموضوع فيها أن يكون من التّابوهات بمرجعيّة أنّ لتلك النُّخب صلة بالعمليّة السّياسيّة، وأيّ تناول لها هو من صميم التّعرُّض لتلك الإشكالات، ولو في جزء منها وهو ما قد يجرُّ، أيضا، إلى تناول قضايا تاريخية والبحث في الهويّة ومسائل شائكة أخرى لا طائل من التّطرُّق لها. فيما الموضوع مجرّد دراسة لفئة حيويّة من المجتمع مع التّعرُّض، بشيء من التّفصيل، إلى متغيّرات فرعيّة عن صناعتها وهي متغيّرات البناء، التّجديد والدّوران. وبالنّتيجة، سيكون التّطرُّق إلى الموضوع من خلال سوسيولوجية تهيئة تلك النُّخب مع ربطها بمتغيّري التّجديد والدّوران، ذلك أنّ تهيئة النُّخب، خاصّة من خلال أداة التّعليم، لا تكون إلاّ لأداء المهمّتين اللّتين هما، في آن، بيولوجيّتان علميّا، ضروريّتان مؤسّساتيا وحيويّتان اجتماعيّاً.

على المستوى السّوسيولوجي، هناك عدّة مداخل تتم من خلالها صناعة النُّخب، في الجزائر، منها، على سبيل المثال، المدخل التّعليمي، إذ تُعرف الجزائر بالتّعليم المجّاني، في مختلف أطواره، من الابتدائي إلى الجامعي، تعليم ما زال يحافظ على جودته، بالرّغم من إدخال إصلاحات عليه، فترة بعد فترة، منها ما كان بمخارج الجودة، ومنها ما أنتج قصوراً أو فشلاً استغلّه الأولياء بمخارج لوجستية من تعليم في البيوت، تعليم في مراكز خارجية تقوم بتقديم دروس تدعيمية وأخرى خصوصية مدفوعة الأجر إضافة الى استعانة الأولياء بمراكز تعليم اللُّغات التّي أضحت منتشرة في كلّ مدن الجزائر بمرجعية الاهتمام باللُّغات وحيويتها في مواصلة التّعليم في الخارج أو فرص الحصول، مستقبلا، على وظائف مناسبة تقتضي، كلُّها، إلزاميّاً، إلماماً واسعاً باللُّغات الأجنبية، خاصّة منها اللُّغة الإنكليزية، وأخيراً، لحقت بها اللُّغات الصّينية والتّركية والألمانية.

الخبرة ذات طابع تراكمي، تستفيد من تجارب الجيل الأوّل، وما يورّثه لمن يليه

يتيح المدخل التّعليمي، بانفتاحه على المجتمع كلّه، من خلال مبدأ إلزامية التّعليم، إلى سنّ السّادسة عشرة للجزائريين، كلّهم، وللجنسين، إلى جانب مراكز التّكوين المهني التّي شكّلت طفرة في اكتساب معارف لمن لم يفلحوا في مواصلة تعليمهم، إمكانية الصُّعود الاجتماعي بعيداً عن المداخل الاجتماعية الأخرى من مركز عائلي موروث (غنى، مكانة)، وهي إمكانية أضحت الفرصة الاجتماعية المُتاحة للوصول إلى المناصب العالية من خلال المسابقات التّي تجرى، مثلا، للوصول إلى القطاع الدّبلوماسي، أو من خلال المعدّلات المرتفعة التّي تتيح دخول أرقى الجامعات/ التّخصُّصات، مثل الطّب وبعض التّخصُّصات التّقنية الدّقيقة على غرار التّخصُّصات الإلكترونية والمدارس العليا على غرار مدرسة الذّكاء الاصطناعي (فُتحت أخيراً لتعزيز فرص الحصول على نخبة في الميدان).

وعلى المستوى المؤسّساتي، التّرقيات، سواء من خلال الاستحقاق (الكفاءة والخبرة) أو المسابقات، هي المدخل الآخر الذّي تقوم النُّخب على أساسه، حيث لا مصعد اجتماعيا إلا ّمن خلال ذلك المدخل المكمّل، نوعاً ما، للمدخل التّعليمي، وهو محكوم، عندما يُطبّق بحذافيره، بقوانين وإجراءات تجعل منه معيارا صارما استطاعت الجزائر، بعد الاستقلال، الارتكاز عليه لاكتساب كمّ هائل من العناصر في مجالات عديدة وصل بعضها حتّى إلى الوزارة والمسؤوليّة على الشركات الكبرى والمؤسّسات المفتاحية في الإدارة الجزائرية.

طبعا، تعود تلك المقاربة لبناء النُّخب من خلال المدخلين المذكورين، التّعليمي والوظيفي، إلى الوضع الجزائري بعد الخروج من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي، فالجزائر لم تكن تتوفّر إلّا على عدد قليل من العناصر، سواء من المتعلّمين من أبناء الجزائر أو من المتعاونين الفرنسيين الذين استمرُّوا في العمل في الجزائر، ولم تستطع الجزائر تكوين عناصر أخرى إلا بعد تخريج المدارس والجامعات الجزائرية أولى الدُّفعات التّي شكّلت النّواة الأولى للنُّخبة الجزائرية من أبناء الشّعب بعيداً عن مقاربات بناء النُّخب التي عرفتها سوسيولوجيات دول عريقة كانت عمليّة البناء تلك تقوم، فيها، على المعايير التّقليدية للصُّعود الاجتماعي، وإن تعمّقت، على غرار بلدان العالم، من خلال تكافؤ الفرص، ارتكازاً على المدخلين، التّعليمي والتّكويني (الشّهادات والخبرة).

توقّفت عملية الصُّعود الاجتماعي أو تعطّلت مداخلها ليصبح دوران النُّخب متّسماً ببطء شديد

تعتمد تلك القراءة على الطّابع السوسيولوجي لصعود النُّخبة من خلال المدخلين المذكورين، وعبر الدّوران والتّجديد اللّذين لا يمكن الاستغناء عنهما، إذ تجدّد المجتمعات نفسها على أكثر من مستوى، ومنها مستويات النُّخبة، لأنّ الخبرة ذات طابع تراكمي، تستفيد من تجارب الجيل الأوّل، وما يورّثه لمن يليه والعمليتّان تتمّان، حتما، من خلال تجديد العناصر المكوّنة للنُّخبة لتستمرّ الأعمال، والإدارة والتّسيير، كما أن سنن الحياة تقتضي تداول الأدوار، لأنّ مراكمة الخبرات والتّجارب، إضافة إلى تغيُّرات الظُّروف، قد يستدعي دورانا أو تداولا للنُّخب تتكيّف الواحدة مع تلك المتغيّرات بمقارباتٍ أفضل، بما يتوفّر لها من أدوات قد تسمح لها بالتقاط المنعرجات وفهم نقاط التّحوُّل لتحويلها إلى فرص مُثلى للتّقدُّم.

لا ينبغي المرور إلى مسألتي التّجديد والدّوران قبل تعريف الطّابع السُّوسيولوجي، لأنّ التّعريف يحصُر المسألة في الفاعلين المعنيين في ظاهرة النُّخبة إلى جانب الأصول الاجتماعية والمؤثّرات التّي تفتح الباب واسعاً، أمام الصّعود الاجتماعي من أمثال المداخل التّي تمّ الإشارة اليها (التّعليم، الخبرة) لأفراد المجتمع نحو النُّخبة أو تصدُّر المجتمع في مجالات محّددة يكون فيها التّأثير، الفعل، الوعي والإرشاد في باب فهم إشكالات ذلك المجتمع، وهي ظواهر، كما يبدو، ملازمة لظاهرة النُّخبة وسُبُل بنائها في أيّ مجتمع.

بالنّسبة لمسألة التّجديد، فانّ الجزائر لم تبق في ظروف ما بعد الاستقلال الذّي كان يستدعي الاكتفاء بما تتوّفر عليه البلاد من كفاءات، وان لم تكن بالعدد الكافي، حيث جرت الاستعانة بالمتعاونين ثم بكفاءات تّعليمية من بعض البلدان على غرار مصر، مثلا، في التّعليم، ذلك أنّ مسار التنّمية وتوسُّع العمران، التّصنيع وتكثيف العمليّة التّعليمّية على خلفيّة ارتفاع التّعداد السُّكّاني وتوزيعه الجهوي المختل بين شمال مكتظ وجنوب (الصّحراء الكبرى) فارغ من السّكّان تقريباً، وأدّى ذلك كله إلى تغيرات عميقة في المجتمع وارتفاع طلب كبير على النُّخب من مهندسين، أطبّاء، معلّمين، عناصر إدارية ومسؤولين لمؤسّسات اقتصادية توزّعت على ربوع الجزائر كلّها، ما اضطرّ إلى زيادة عدد الجامعات للرّفع من وتيرة تخرُّج تلك النُّخب التّي يحتاجها سوق العمل.

انخرط المسؤولون عن المدخل التّعليمي في إصلاحات كانت بمثابة مخابر تجربة لمقارباتٍ باءت بالفشل

شكّل ذلك التّجديد ما بات يُعرف، في الجزائر، بنواة الطّبقة الوسطى التّي أضحت واضحة المعالم من حيث العدد، والتّوزيع السّكني، وطبيعة الشّهادات الجامعية المتحصّل عليها، إضافة إلى الحاجة إليها في القيام بالمهام التّي أُنيطت بها بحكم تعليم أفرادها وتخصُّصهم. وانقسمت تلك الطّبقة، بحكم ضيق سوق العمل لاستيعاب كلّ تلك الطاقات، بين من جرى تشغيلهم ومن وجد فرصته في الهجرة، فغادر الجزائر إلى فضاءات أرحب، خاصّة من بين الكفاءات العالية في التّخصُّصات الدّقيقة، وكان توجُّههم نحو بلدان محدّدة غالبا ما كانت فرنسا، بحكم العامل اللُّغوي، أو كندا (منطقة كيبك بسبب المتغيّر اللُّغوي، أيضاً، باعتبارها منطقة فرانكفونية) الى جانب بلدان أخرى شكّلت الوجهة الأحدث لهم، على غرار ألمانيا في تخصُّص الطّب أو بريطانيا في تخصُّصات عديدة لتصبح البلدان الجاذبة للهجرة متعدّدة ومتنوّعة، لا تقوم على متغيّر لغوي، كما جرى عليه التّقليد، من قبل، بل على أساس اقتصادي بحت.

وثمة إصلاحات جرى إدخالها على المنظومة التّعليمية، على عدّة فترات، أضرّت بالجودة التّعليمية إذ تمّ استيراد/ تبنّي بعض المقاربات من دون أن تكون متلائمة مع النّسق الثّقافي والحضاري للجزائر، ومن دون أن تكون متناسقة مع المتطلّبات الآنية والمتوقّعة في ارتباط مع الحركيّة المجتمعية، من ناحية، وتغيُّرات سوق العمل، من ناحية أخرى، وهذا لا يعني زجّ المتغيّر اللُّغوي الذّي كانت الجزائر قد أخذت به، في فترة محدّدة، مع تبنّيها نظام التّعليم مزدوج اللُّغة الذي كانت له ثمرات لا يمكن غضّ النّظر عنها وإنكارها. ولكن، بعد فترة، جرى الاستغناء على النّموذج، ما أضرّ بالمدخل التّعليمي، من ناحية الجودة، باعتباره من مداخل الصُّعود الاجتماعي، في ما بعد.

لا يمكن التّعويل على غير المدخل التّعليمي لإعادة التّوازن للمجتمع في عمليات بناء/ صنع النُّخب والتّجديد/ الدّوران

بالنّتيجة، إذن، توقّفت عملية الصُّعود الاجتماعي أو تعطّلت مداخلها ليصبح دوران النُّخب متّسماً ببطء شديد، ذلك أنّ عملية التعليم التّي توسّعت بفعل العوامل المذكورة لم تصاحبها عملية تقييم لتتناسب مع الحركيّة الاجتماعية والمجتمعية الجديدة وتداعيات العولمة، بل انخرط المسؤولون عن المدخل التّعليمي في إصلاحات كانت بمثابة مخابر تجربة لمقارباتٍ باءت بالفشل، بالرّغم من حرص الأولياء وبعض الفاعلين على القيام بمبادرات خاصّة، من خلال مستويين، هما الحرص على اقتناص فرص الدُّروس التّدعيمية والتّركيز على المدخل اللغوي، والمستوى الآخر هو المدارس الخاصة التي كان لها دور، مع وجود قصور في جوانب عديدة، في اقتناص حالة التّذمُّر الاجتماعي من قصور المنظومة التّعليمية الرّسمية لتفتح مجالا استثماريا ومدخلا بديلا لذلك القصور، ما أعاد بعض التّوازن للمدخل التّعليمي في الصُّعود الاجتماعي، وللأسف، كان موجها نحو الخارج، بصفة خاصّة، حيث يعمل الأولياء على توفير فرص لأبنائهم حتّى يكملوا تعليمهم في الخارج أو بالتّنقُّل نحو الخارج للبحث عن فرص أكبر للصُّعود الاجتماعي من خلال الكفاءة والتّرقية الاجتماعية المتأتّية منها، في ما بعد.

في النّهاية، لا يمكن التّعويل على غير المدخل التّعليمي لإعادة التّوازن للمجتمع في عمليات بناء/ صنع النُّخب والتّجديد/ الدّوران، ذلك أنّ المداخل الأخرى، الصُّعود بالوراثة أو من خلال مداخل النُّفوذ، لا توفّر مبدأ العدالة الاجتماعيّة لتكون عمليات التّقييم والتقويم للمنظومة التّعليمية هي الأساس، من حيث توفير الإمكانات ومراجعة مكامن القصور، حيث تتوفّر الجزائر على تجارب ذاتية جرى العمل بها وآتت أُكلها بالاعتماد على متغيّرات اللُّغة، جودة العرض التّربوي (برامج) والرّبط الحتمي لذلك كله بالنّسق الثّقافي والحضاري، من ناحية، وبالمتغيّرات التّي يشهدها سوق العمل، باستمرار للتكيُّف معه. ومن دون ذلك على البلاد التّعامل، على المديين القصير والمتوسّط (يدخل، نظريّاً، إلى سوق العمل بفعل التّخرُّج والتّسرُّب المدرسي، على حدّ سواء، ملايين من الشّباب) مع حالات تعطُّل عملية الصُّعود الاجتماعي وما يُصاحبها من إحباط نفسي وواقعي/ مادّي لا نعرف الى ماذا يؤدّي من مآلات.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى