كان ذلك في دير البلح، ظهر ذلك اليوم الذي توقف فيه إطلاق النار في قطاع غزة (20 يناير/كانون الثاني الحالي). عندما وقفت الفتاة الغزّية صغيرة السن، بقبعة زهرية اللون، تتحايل بها على الحجاب، أمام مراسل التلفزيون العربي، للتحدث عن مشاعرها بعد أكثر من 15 شهراً من الإبادة.
كانت بكامل زينتها، زينة الفلاحات الصغيرات، لا بنات المدن الكبرى، فليس ثمة دبي هنا، ببشرة بيضاء أقرب إلى الشُقْرة وملامح الشقراوات الأوروبيات، حيث الجمال هنا فطري بلا زينة طارئة، حائر وتائه كأنه قطعة من لعبة البازل، التي لا تنتمي إلى الرقعة التي أمامك، وعليك البحث عن مكانها فيها؛ فلا تجده، لا لشيء، ولكن لأنها مقذوفة في الفراغ تبحث عن رقعتها-الأم لتتموضع فيها، وتُعرَف وتعرِّف.
هي لا تنتمي أيضاً إلى الصورة التي أُنشئت للغزّيين في الشتات الفلسطيني، فإذا هم أقرب إلى غجر أوروبا، وإذ هم كذلك، فبمقدورك ضربهم بالحجارة إذا مرّوا من جوارك، أو رميهم بأقذع الشتائم إذا جاء ذكرهم في الحديث عن الوطنية الفلسطينية التي قدر ما تتشرذم وتَهِن قدر ما تتضخّم أوهامها وتتغطرس.
تدفقت تلك الفتاة بالكلام، الفتاة التي هي قطعة من لعبة بازل مقذوفة في الفراغ، في المشهد القيامي الذي تركه جنود يوشع بن نون، هنا، في قطاع غزة.
وبينما كانت تتحدث، لم يسمع كاتب المقال شيئاً، كأنما الكلام نفسه لا ينتمي إلى المشهد الذي تبثه الفضائية العربية، بل إلى مشهد آخر تنتظره الفتاة ليكتمل معناها هي ومعناه، الأمر الذي جعل كلامها يبدو كأنه موجّه لمستمعين في منطقة أخرى من العالم، طبقة أخرى من الوعي، فهل كانت تخاطب ذاتها واحتمالاتها؟ الله نفسه في نهاية المطاف؟ صورة الضحية في مرايا آلامها؟ أنت لا تعرف لكنك فجأة تنتبه، كأنما رصاصة أصابتك في الرأس دفعة واحدة، عندما قالت “ورح نظل هينا (هنا) ونعمّر البلاد”.
يا إلهي، هل قالت “رح نظل هينا ونعمّر البلاد”؟ هي وليس سواها؟ ولا تعرف كيف داهمك ذلك الشعور الضاغط بأنها ليست هي، وبأن كلامها “كأنه” جاء من خارجها، لكن عبْرها، كأنه جاء من كل ذلك الخراب العميم لهيروشيما (غزة المعاصرة)، من باطن تلك الأرض التي لا يزال أهلوها يعثرون على بقايا ذويهم ممن قُتلوا في الحرب، وتهدمت فوقهم منازلهم، منازل أهلي هناك، الذين هم النعجة السوداء في هذا العالم، الحصان القعيد الذي يتحضّر للذبح، أختنا العروس بقدمها المبتورة وهي تصعد طريق الآلام، والشوك تاجها والمسامير أساورها. من أين جاء كلام تلك الفتاة؟
من بين كل العرب، والعالم حتماً، يختص الفلسطينيون وحدهم بأوصاف متدرجة ومختلفة وتتسم بالدقة والصرامة في وصفهم “أوطانهم” الصغيرة التي يقيمون فيها، ووحدها المناطق التي احتلتها إسرائيل عام 1948 وأصبحت جزءاً منها، من تحتفظ في وعي الفلسطيني بوصف “البلاد”، وسواها يُوصف بـ”البلد”، في حال ذُكرت الضفة الغربية أو قطاع غزة أو بلداتهما.
وحدها الـ1948 هي “البلاد”. وعندما تسمع فلسطينياً في الشتات يتحدث عن “الداخل”، فإنما ليشمل الوصف كل الأراضي الفلسطينية، فكيف تأتّى لفتاة صغيرة أن تصف قطاع غزة، حيث تقيم في دير البلح، بالبلاد؟ كيف أصبحت “هينا” هناك؟ أو لعلها امتدّت فأصبحت “هنا” ممتدة على “جغرافيا السحر الإلهي” بتعبير شاعرهم محمود درويش؟
ربما لأن بلاغة السياسي الفلسطيني الصغير تقصر عن فهم لاوعي الفلسطيني حين ينظر إلى أرضه وقد أضحت خراباً، فتهبّ الأرض نفسها، وهي لاوعي الفلسطينيين الحقيقي وصخرتهم، مع شقيقاتها في المناطق الأخرى، لتقول لك إنها نكبة أخرى و1948 أخرى، وإن الأرض واحدة، متصلة ومتواصلة، قائمة ولا تزول، أياً كانت أسماؤها وأوصافها، وهي تنتظر بنيها، ليستعيدوها ويعمّروها.
أنت لا تعرف دير البلح، تلك المدينة التي ولدت فيها تلك الفتاة.
إنها أول مدينة في تاريخ الفلسطينيين بُنيت كنيسة أو دير فيها (نحو نهاية القرن الثالث للميلاد)، وفيها نخل كثير (20 ألف شجرة نخيل)… النخلة نفسها التي هزّت جذعها مريم البتول في رحلة خوفها وحصارها مع الطفل/الرسول الذي قام.
أنا سوداء وجميلة يا بنات أورشليم.
المصدر: العربي الجديد