لبنان… وعود وآمال لبلد الاستحالة

جورج كعدي

أَلِفَ اللبنانيون، منذ الاستقلال الوطني (1946)، خُطب رؤساء الجمهورية المتعاقبين المليئة بالوعود المستقبلية الجميلة، ليتبيّن لاحقاً أنّ التعقيدات والعقبات تحول دون تنفيذ تلك الوعود، ليس بالضرورة لعدم وفاء مطلقيها بوعودهم الصادقة، بل بسبب تركيبة لبنان المعقّدة والتعارض بين مصالح الطوائف والمجموعات المُكوِّنة لهذا البلد الذي تنفجر فيه الصراعات والحروب، الداخلية والخارجية، كل عقد من السنين (أكثر أو أقلّ)، بفعل المصالح المتناقضة والعصبيّات الطائفية المهيمنة والفساد السياسيّ والماليّ والإداريّ المستشري، ونظام المحسوبيات منذ تشكّل الكيان اللبناني، ما يمنع أيَّ عملية إصلاح أو تطوير أو تحديث أو تطبيق للقوانين الضرورية لوقف المحاصصات الطائفية ومنع الفساد واعتماد الشفافية والمحاسبة وإقرار اللامركزية الإدرية والإنماء المتوازن، أضف (في هذا المجال) البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة التي لطالما وعدت الشعب اللبناني بالمنّ والسلوى إصلاحاً وإنماءً وازدهاراً ومشاريع، ولم تنجز إلّا القليل، وفي ما ندر، بحيث لم تتعدَّ في الممارسة والتطبيق حدود الشعار والوعود الكلامية.
أعاد خطاب الرئيس اللبناني الجديد، جوزاف عون، طرح الأسئلة والشكوك بين اللبنانيين غداة انتخابه، ففيما استبشر بعضهم خيراً بالتعهدّات التي تضمّنها خطاب القَسَم، عبّر بعضهم الآخر عن شكّ وحذر من إمكان تطبيق الوعود، التي سمع مثلها الكثير في عهود رئاسية منصرمة، وخُطَب قسمٍ لرؤساء سابقين، توالوا على قصر بعبدا الرئاسيّ. والشكّ ليس موجّهاً إلى شخص الرئيس الجديد، بل إلى واقع البلد الذي يعرفه اللبنانيون جيّداً واكتووا بنيرانه. فلبنان وطن صعب، معقّد ومركّب، تجذّر فيه الفساد وطالت فيه حالة الاعوجاج، إلى حدّ أنّه يحتاج إلى “نفضة” كاملة وعامّة، أو إعادة تأسيس من جديد لسائر هياكله وسلطاته الدستورية، التشريعيّة بخاصّة، والقضائية والتنفيذية، وإلى “عصرنة” هُويته المدنية التي تتخطّى الطائفية، وإلى حوكمة رشيدة في المال والاقتصاد والإنماء والإفادة من الثروات الطبيعية، وإلى نسج العلاقات السليمة والمنفتحة على دول الإقليم والعالم.

الشكّ ليس موجّهاً إلى شخص الرئيس الجديد، بل إلى واقع البلد الذي يعرفه اللبنانيون جيّداً واكتووا بنيرانه

العناوين العريضة والتفصيليّة العديدة التي تضمّنها خطاب الرئيس اللبناني الجديد جميلة، محدّدة، محقّة، ولا غبار عليها ولا سجال حولها، إنّما لا يعفيها هذا كلّه من أنّها مُجرَّد وعود ورديّة وعناوين جذّابة لا قيمةَ فعليّة لها إلّا بالتنفيذ وامتلاك القدرة على إزالة المعوّقات الجمّة من أمامها. لا قيمة لأيّ وعد أو تعهّد إن لم يقترن بالتطبيق. ولو فصّلنا عناوين خطاب القَسَم، لألفينا الرئيس الجديد يُقسم على “حماية قدسية الحرّيات الفردية والجماعية التي هي جوهر الكيان اللبناني”، ولكن كيف السبيل إلى ذلك ولم ينعم لبنان في تاريخه بحرّية تعبير غير خاضعة للرقابات المتعدّدة، الرسميّة والدينية والمذهبية وحتى الشعبية أحياناً، بسبب كثرة الحساسيات الموجودة في المجتمع اللبناني المركب؟ وثمة تعهّد من الرئيس على “العمل مع الحكومة المقبلة على إقرار مشروع قانون جديد لاستقلالية القضاء”، فكيف يتحقّق هذا الهدف الجوهريّ للوطن ولحقوق المواطنين ما دامت المحاصصة الطائفية والحزبية والسياسية باقية على قاعدة التوازن المذهبي، ولا سبيل إلى الخلاص منها من غير انتقال إلى الدولة المدنية غير الطائفية، بحيث لا يبقى كلّ قاضٍ مرتبطاً بطائفته أو مذهبه أو حزبه أو مرجعيته السياسية؟ والسؤال عينه يسري على التطوير الإداريّ والماليّ والرقابيّ الذي تناوله الخطاب، فضلاً عن حماية المستهلك ومنع الهدر وتحسين الخدمات للمواطنين، إلخ.
العناوين الأخطر والأدقّ في خطاب القسم الرئاسيّ هذا تتعلّق بإشكالية “احتكار حمل السلاح” بيد الدولة (المقصود بالطبع سلاح حزب الله)، وتولّي الجيش ضبط الحدود، ومحاربة الإرهاب ومنع الاعتداءات الإسرائيلية… بلوغاً إلى “مناقشة سياسة دفاعية متكاملة تكون جزءاً من استراتجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية، بما يمكّن الدولة اللبنانية من إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردّ عدوانه عن الأراضي اللبنانية كافّة”. كلام سليم مائة في المائة، لكنّه ليس جديداً البتّة، ورافق العهود الماضية كلّها، منذ إقرار وثيقة الوفاق الوطني المعروفة باسم “اتفاق الطائف”. فمن أبرز العقبات الكَأداء والمستعصية، التي اعترضت احتكار الدولة للسلاح للدفاع عن الوطن ضدّ الاعتداءات الإسرائيلية وغيرها، انعدام القدرة على تسليح الجيش كما ينبغي بأسلحة ثقيلة رادعة وفاعلة، وعدم توصّل المناقشات التي جرت مراراً إلى إقرار استراتيجية دفاعية تلغي وظيفة المقاومة أو تُلحقها بالجيش الوطني بطريقة ما. ليت المهمّة تكون للرئيس جوزاف عون أسهل ممّا كانت في عهود أسلافه، فحتى إقرار هذه الاستراتيجية، التي كثر الكلام حولها طوال عقود، يبقى الوعد وعداً والعنوان عنواناً.

لا يملك لبنان أيّ قدرة أو قرار في مسألتَي حقّ عودة الفلسطينيين وحلّ الدولتَين

أمّا في الشأن الفلسطينيّ، فإن الرئيس اللبناني الجديد يتعهّد “بأن نتمسّك جميعاً بمبدأ رفض توطين الأخوة الفلسطينيين حفاظاً على حقّ العودة، وتثبيتاً لحلّ الدولتين، الذي أُقرّ في قمّة بيروت وفقاً لمبادرة السلام العربية”. فإذا كان رفض توطين الفلسطينيين أمراً لبنانياً ثابتاً منذ النكبة عام 1948، كيف نعدهم ونعد أنفسنا بأن حقّ العودة محفوظ لهم، أو أنّه سيحفظ، في ظلّ الرفض الصهيوني المطلق لهذا الحقّ والدعم الأميركي والأوروبي لهذا الرفض، بل الدفع باتجاه توطين نصف مليون فلسطيني في لبنان على نحو تامّ ونهائيّ؟ لا يملك لبنان رأياً في حقّ العودة، ولا قدرة له على منحه. أمّا حلّ الدولتين، فقد دفنه الإسرائيليون منذ زمن بعيد، ولم يبقَ وارداً أو مطروحاً، بحسب التصريح العلنيّ الواضح لبنيامين نتنياهو أكثر من مرّة. وبالتالي، لا يملك لبنان أيّ قدرة أو قرار في مسألتَي حقّ العودة وحلّ الدولتَين.
ثمّة أيضاً كثير من المسائل الإشكالية والصعبة في القَسَم، التي يصعب تخيّل الحلول الممكنة بشأنها، كإشكالية الحياد الإيجابي التي دار حولها سجال عنيف بين الأطراف اللبنانية، وإشكالية العلاقة مع سورية التي لم يستقرّ نظامها السياسيّ بعد، وقد يستلزم سنوات ليستقرّ. أمّا الإشكالية الأصعب بالمطلق، فهي إعادة أموال المودعين، أي إيجاد حلّ لإحدى أكبر الكوارث التي حلّت باللبنانيين في السنوات الأخيرة. عناوين صعبة، شائكة، يبدو بعضها مستحيلاً وبعضها الآخر أقرب إلى الحلم منه إلى الحقيقة، فكم يتحقّق من ذلك كلّه في السنوات المقبلة؟ هذا ما ستكشفه مراحل العهد الجديد تباعاً، وليت الأحلام والنيات الطيّبة تصير واقعاً، إذ لا أحد يكون مغتاظاً في هذه الحالة، فالجميع مستعدّ للاعتراف في حال تنفيذها بأنّ المستحيل قد تحقّق.

المصدر:  العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى