دعوات في تونس إلى الحوار بلا أفق

محمد خليل برعومي

تعددت في تونس أخيراً أصوات من داخل منظومة الرئيس قيس سعيد تطالب برفع بعض القيود على الحريات وإجراء إصلاحات تشريعية وسياسية عاجلة، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين وسجناء الرأي، تحسّباً لمخاطر تُحدق بالبلاد داخلياً وخارجياً، في ظل انغلاق السلطة القائمة وجنوحها إلى التفرّد بالحكم وتدهور الأوضاع الاقتصادية والمالية.
دعت مجموعة من أعضاء مجلس نواب الشعب المنتخب في 13 مارس/ آذار 2023، بعد قرار الرئيس قيس سعيّد تجميد المجلس السابق ثم حله، دعا النواب إلى قبول الاختلاف السياسي والتعددية وتكريس استقلالية القضاء وإطلاق سراح المتابعين في قضايا الرأي والتعبير وإلغاء الاجراءات الجزرية في قضايا ذات خلفيات فكرية وسياسية.
جاءت دعوة النواب في بيان تلاه النائب ثابت العابد إبّان جلسة عامة في البرلمان، إذ اعتبر أن مصطلح الوحدة الوطنية مُرتكز لتفعيل الحياة السياسية في ظل المخاطر التي تواجه البلاد خاصة بعد التغيرات السياسية في العالم، كما اعتبر أن هذه التحدّيات لا يمكن مواجهتها بالمقاربة الأمنية فحسب، وإنما بفتح منابر وسائل الإعلام على نقاشات قائمة على الرأي والرأي المخالف. إثر ذلك، تقدم 60 نائباً من مجلس النواب إلى مكتب المجلس بطلب إدراج مقترح قانون لتعديل المرسوم عدد 54 المتعلق “بجرائم” النشر والتعبير ومواقع التواصل الاجتماعي. وقال النواب إن مكتب المجلس قد خالف الدستور بتجاهل مطلبهم منذ فبرابر/ شباط 2022.

من المستبعد أن يستمع سعيّد للأصوات المخالفة، أو أن يفسح المجال لمبادرات تشريعية أو سياسية تسعى إلى رتق الفتق في البلاد

بصرف النظر عن مدى استجابة رئيس السلطة القائمة إلى هذه الدعوات، وتلبية رئيس البرلمان لمطالب النواب التي يكفلها القانون، وهو المحسوب على قيس سعيّد وكان اختير لهذا المنصب بعد أدوار “جليلة” قدّمها لفائدة سلطة الانقلاب، حين كان رئيساً لنقابة المحامين، كما تكفل بتحويل السلطة التشريعية خلال فترة رئاسته لها إلى وظيفة خاضعة لتعليمات القصر، دورها الأساسي المصادقة على القروض، بصرف النظر عن كل ذلك، فإن لهذه الأصوات والتحرّكات من داخل منظومة 25 يوليو (2021) دلالات عدة، سيما إذا ما اقترنت بانقلاب/ تغير مواقف عديد المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي من داعمي قيس سعيّد الرئيسيين.
تؤكّد هذه الأصوات حالة التصدّع داخل إدارة سعيّد وغياب الرؤية المشتركة للحكم والتشريع والفعل السياسي، وعدم الرضا عن مردودية (ونجاعة) الخيارات الرئاسية وسياسات الحكومة المعبرة عنها، ما عجّل في بداية هذه العهدة الجديدة للرئيس بقفز كثيرين من المركب، ومحاولة آخرين أخذ مسافة من السلطة التنفيذية.
كما تؤكد هذه المواقف من داخل البرلمان إيغال السلطة التنفيذية في استعمال القضاء وتدجينه وتحويله أداة لتصفية الخصوم السياسيين وأصحاب الموقف، ومواجهة المعارضة بالتتبعات الأمنية والاعتقالات وسلب الحقوق مثل حق التنقل والسفر والتعبير في وسائل الإعلام والحرمان من حق الترشح للانتخابات وغيرها من الانتهاكات الحقوقية والإنسانية الفضيعة التي مورست في السنوات الأخيرة. ومن خلال بيان النواب الأخير شهد شهود من منظومة قيس سعيد أن مقاربة سلطة الانقلاب في التعامل مع الملفات هي مقاربة أمنية بحتة في انعدام كلي لمناخ الحوار والتشاركية أو حتى التعايش وقبول الرأي المخالف، بعد أن حاولت هذه السلطة أن تنفي في أكثر من فرصة مسها من مناخ الحرّيات أو استهداف المواطنين على آرائهم ومواقفهم.
من المستبعد جداً أن يستمع الرئيس التونسي لهذه الأصوات، أو يفسح المجال لمبادرات تشريعية أو سياسية تسعى إلى رتق الفتق في البلاد وتقريب وجهات النظر، هذا إذا لم يأمر بإجراءات زجرية ضد من سيعتبرهم خونة ومتآمرين جدد، وهذا دأبه مع كل مختلف.

لا يعدو الحديث عن الحوار الوطني في بعض أوساط السلطة أن يكون مبادرات فردية

تواتر الحديث في أوساط قريبة من السلطة عن حوار مرتقب أو ضرورة تنظيم حوار وطني يعزّز الجبهة الوطنية في وجه التغيرات الطارئة على المنطقة والعالم. في مقابل ذلك، تفيد معطيات أخرى عن إصرار الرئيس على المضي في استبداده، وضغطه من أجل تسليط أحكام قاسية على عدة معتقلين، تزامن ذلك مع تسريب موعد محاكمة بعض القيادات السياسية المعتقلين في قضية ما يعرف بالتآمر على أمن الدولة، مثل القيادي في جبهة الخلاص الوطني، جوهر بن مبارك وأمين عام الحزب الجمهوري عصام الشابي وأمين عام التيار الديمقراطي غازي الشواشي والناشط السياسي عبد الحميد الجلاصي وآخرين، دون إبلاغ هيئات الدفاع، لتتحدد الجلسة لاحقا في بداية مارس/ آذار المقبل، وسط مخاوف عدة من أحكام جائرة دفعت بالمحامبن وعائلات المعتقلين ونشطاء سياسيين للمطالبة بعلانية المحاكمة للرأي العام عبر وسائل الإعلام، التي شابت أطوار بحثها خروقات كثيرة وتهم زائفة ومؤامرات سلطوية انتهت بفرار القاضي الذي نظر في القضية واحتفظ بالمتهمين، وصار بدوره مطلوبا إلى العدالة في تونس.
يتزامن ذلك أيضا مع خوض كل من رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة المكلفة بالعدالة الانتقالية سابقا سهام بن سدرين والناشط السياسي مصعب الغربي إضرابي جوع من داخل معتقليهما منذ 14 يناير، ذكرى عيد الثورة، رفضا لتواصل الاحتفاظ بهما من دون تهم واضحة وأحكام قضائية عادلة، مثل العشرات القابعين في السجون، بعضهم منذ أكثر من سنتين في غياب أحكام، ما يؤكد إصرار السلطة التنفيذية المتحكّمة في النيابة العمومية وجهاز القضاء على التنكيل بالمعارضين وليس الجلوس معهم للحوار.
يبدو أن الحديث عن الحوار الوطني في بعض أوساط السلطة لا يعدو أن يكون مبادرات فردية، في جزء منها تسجل تمايز بعضهم عن السلوك الوحشي للنظام، وتسعى للضغط من أجل حلحلة الوضع فعلا، من ناحية أخرى تمثل ورقة إلهاء ومحاولة لامتصاص الغضب المتصاعد في الشارع التونسي وبين النخب السياسية، في استباق لفرضيات تحفيز التغيرات السورية الأخيرة للفاعلين التونسيين.

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى