يحصل التحوّل التاريخي أخيراً في سورية بعون من الخارج، وكذلك في لبنان. ما كان يمكن غير ذلك. مجتمعاتهما أو “شعبهما” كما يقول الشاعر، لم “يستجِب لهما القدر”. لم يكونا على قدر “إرادتهما بالحياة”، فكان التدخّل الخارجي خير من هذا القدر.
بعيد ذلك، يصعد إلى سدّة الحكم في سورية رأس واحد، أحمد الشرع. وفي لبنان رأسان جديدان، رئيس الجمهورية جوزاف عون، ورئيس الوزراء نواف سلام. من هذه الناحية الشكلية، لا تختلف المرحلة الجديدة عن الآفلة. كان الأسد وحده على رأس السلطة، قبيل التحوّل. وكان حزب الله متحكِّماً بالبلد، وبـ”رؤساء” أصحاب صفة رسمية.
يأتي التحول برجل، الشرع، صاحب خبرة في حرب العصابات في سورية. وفي لبنان، يُزاح رجال حروب العصابات، ويحضر رجلان جديدان: واحد قادم من مؤسّسة الجيش، والثاني من الديبلوماسية والقضاء. الأول يغيّر اسمه من الجولاني إلى الشرع، ينزع ثياب جهاده ويلبس البنطلون والجاكيت، ويلفّ عنقه بالكرافاتة ويشذّب لحيته… أما الرجلان اللبنانيان فلا يحتاجان إلى الكثير. يلبس الرئيس العسكري بدلته المدنية المعتادة، والثاني يبقي عليها.
في سورية، يُقضى على الحكم القديم بفعل أقرب إلى “الذاتي”. إذ يهرُب بشار، رأسه الأعلى، ويتناثر أهله ورفاقه بين فارّ و”فلول” و”مكوّع” ومتسلّل إلى الخارج. وحدهم كبار الأثرياء من بينهم ينالون الأمان من الحاكم الجديد مقابل دفعهم المليارات. أما في لبنان، فما زال الحاكم السابق، حزب الله، متمسّكاً بأهداب حكمه، رغم خسائره. يضع شروطاً، يفرض مناخاً، يُعلي نبرته، يزنُها. كل هذا من أجل أن لا يخسر مواقعه في المؤسّسات الرسمية، بما يدّر عليه من أسباب البقاء. ورجال السلطة الجديدة اللبنانيين ليسوا كاسرين. وأكثر فعل يداومون عليه، وهو “التطمين”، وأكثر علاقة يصْبون إليها هي “التوافق”.
يُستبعد أن يحكم رجال لبنان الجدد من دون مشاركة لطائفة بعينها، هي الشيعة. ويصعب على الحاكم السوري الجديد أن يحكم كل سورية من دون أن يتفاهم مع مكونات سورية
في سورية، يبلغ الحكم من يمكن وصفه بفرع من فروع الإسلام السياسي السنّي. حاكمها الجديد يبدي منذ اللحظة الأولى لوصوله إلى السلطة درجة عالية من البراغماتية الذكية. يقول إنه لن يقوم بكذا وكيت. ولكنه لا يراجع تجربته الجهادية ولا التي تلتها، السلفية الجهادية، ولا الحكم الإسلامي الذي قاده في إدلب، ولا يتخلص من طقوس الاسلامية الأخرى. أما في لبنان، فيسقط إسلام سياسي آخر، شيعي، يختلف عن غيره من “الإسلامات” بأن المجتمع قاوم جانبه الاجتماعي بكل ما أوتي من حداثة. والفضل بذلك يعود إلى “مكوِّنه” المسيحي، الأعرق حداثة من بين “المكونات” الأخرى.
وفي الحالتين، سيكون على هيئة تحرير الشام أن تتحول إلى حزب إسلامي “مقبول” من جهة المانحين، وربما بصرف النظر عن “إرادة” المجتمع. وسيكون على حزب الله أن “يتحول” بدوره، بخطوات تسمى “مراجعة”؛ أي أن يتخلى عن سلاحه ويكون حزباً لبنانياً طائفياً كنظرائه من أحزاب الطوائف الأخرى.
وبذلك، تكون سورية قد استأنفت علاقتها مع التقليد الشرقي. تقطع مع شيء من الحداثة كانت قد انخرطت بها بعيد استقلالها وحكم الأسد، وتدخل في طور هجين، بحداثة قسرية، وتقليد يقول خطباء السلطة الجديدة ان الحرية الوحيدة الشرعية فيه هي “حرية التديّن”. والعكس في لبنان، الذي يتخلّص من وعود الأئمة الغائبين، ومعارك آخر الأزمان، وضريبة كربلاء… ويستأنف علاقة مع الغرب، فيحيي جو “استعادة الماضي الجميل”، كانت الحداثة فيه علامته الفارقة عن بقية العالم العربي.
في سورية، هرب الزعيم بشار بمساعدة الروس. وفي لبنان، قتل حسن نصر الله، زعيم الحزب الذي تحكم بلبنان على يد إسرائيل
خذْ مثلاً: كيف أن زعيم المرحلة الجديدة السورية أحمد الشرع لا يصدّر نساء، إلا بقدر رخو من “البراغماتية”: واحدة بحجاب والثانية بنقاب. والاثنتان يشفّ عنهما الولاء لإسلامية سياسية بخطوطها العريضة. نساء لبنان بالمقابل يصعدن مع التحول الجديد، صاحبات تجارب مهنية طويلة، في مجالات “حداثية”، عُيِّنَ في مراكز رفيعة. فيما زوجتا الرجلين، رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، تخرج صورهما إلى الاعلام: الأولى بمبادراتها الحيوية داخل القصر الجمهوري، بكلماتها عن الجنوب ورسائلها المتفائلة. والثانية بحث عنها الصحافيون ليجدوا أنها لا تقل عن زوجها عطاء وعلماً، في عالمي الصحافة والديبلوماسية.
الحاكم السوري الجديد لم يوجه ولا كلمة واحدة للسوريين. فقط يصرح، يتحدّث إلى زواره أو الصحافة. يومياً، ترتفع أصوات تطالبه بتوجيه كلمة إلى السوريين. الحاكمان اللبنانيان الجديدان، من لحظة وصولهما، يوجهان كلمات مطلعها “أيها اللبنانيات واللبنانيين”، يعرضان “برنامجهما”، يتطرقان إلى المسائل الحارة التي تعنيهما، يطويان الصفحة القديمة.
في سورية، هرب الزعيم بشار بمساعدة الروس. وفي لبنان، قتل حسن نصر الله، زعيم الحزب الذي تحكم بلبنان على يد إسرائيل. إسرائيل تدمّر معظم سلاح هذا الحزب، وتبقي على بعضه. ما يفرض على السلطة الجديدة ذاك “التوافق” معه. في سورية، يخرُج بشّار وتقضي إسرائيل على جيشه. ويمكن بالتالي اعتبار أن مرحلة ما بعد الأسد قد بدأت. وأن مرحلة ما بعد حزب الله تتعقد. سواء أزيح هذا الحزب عن العهد الجديد أو جرى “إرضاؤه” بمنحه بعض الوزارات والإدارات.
ومع ذلك، ثمّة ما يراهَن عليه الحكم الجديد في لبنان: الانتخابات النيابية ستجري حتماً بعد سنة ونصف، بموعدها المقرّر كل أربع سنوات. أما الانتخابات السورية، وبحسب ما أعلن زعيمها الجديد، فستحتاج أربع سنوات مقبلة للتحضير لكتابة الدستور، وسنة إضافية أخرى لإجرائها. في هذه الأثناء، يكون البرلمان اللبناني جديداً، لا نعرف بكم درجة. ولا برلمان سورياً إلا إذا فعلت الضغوط الخارجية فعلها مرّة أخرى.
ولكن ثمّة مشتركاً بين البلدين: السجناء. الاثنان يتبادلانهما. في لبنان حوالي 1700 سجين سوري. وفي غالبيتهم سجناء رأي، معارضون للأسد، اعتقدوا أن لبنان ملاذهم. ولا نحسب هنا السجناء من اللاجئين السوريين، الذين كانوا يعتقلون لنقص في أوراقهم، وتُرفض في الآن عينه طلباتهم للحصول عليها. أما السجناء اللبنانيون في سورية، فأقدم منهم بعشرات السنوات في سجنَي صيدنايا وعدرا الرهيبَين.
قد تكون مسألة إعادة الإعمار أولوية الأولويات لدى الحكام الجدد في لبنان وسورية، أو قل معيار العلاقات التي سيقيمونها مع الخارج
أيضاً: يُستبعد أن يحكم رجال لبنان الجدد من دون مشاركة، ولو شكلية، لطائفة بعينها، هي الشيعة. ويصعب على الحاكم السوري الجديد أن يحكم كل سورية من دون أن يتفاهم مع “مكونات” طائفية وعرقية: الكرد، الدروز، العلويين… وحيث لا يُحسب للمسيحيين حساب، فلا منطقة واحدة تجمعهم ولا أراضي.
والمشترَك الآخر: إلحاح مسألة إعادة إعمار البلاد. وقد تكون هذه أولوية الأولويات لدى الحكام الجدد في لبنان وسورية، أو قل معيار العلاقات التي سيقيمونها مع الخارج. وبشار الأسد دمر في سورية أكثر مما دمرت إسرائيل في لبنان.
جبل الشيخ يجمع بين سورية ولبنان. في الحروب الأخيرة احتلته إسرائيل بكامله. وغرز نتنياهو بصمته على ترابه، وأعلن أنه، إذا انسحب من بقية الأراضي التي احتلها في جنوب سورية، فلن ينسحب من جبل الشيخ. أما في لبنان، فالانسحاب الإسرائيلي من جنوبه ما زال موضع أخذ ورد ومطالبات، رغم وقف إطلاق النار. وفي كل الأحوال، لن يكون بعيداً عن مرمى نيرانها.
لبنان وسورية توأمان غير مطابِقين. بين ولادة الأول والثانية لحظات من التاريخ. وهذه اللحظات هي التي صنعت كل هذا الفرق. فهل توسّع التحولات الجديدة هذه اللحظات، أم تضيّقها؟
المصدر: العربي الجديد