لبثت لهفةُ السوريين إلى الحرية في نفوسهم طوال سنواتٍ عديدة، بل كادت أن تتحوّل إلى غصّة موجعة نتيجة الإحباطات الكثيرة التي استحكمت بمفاصل الثورة. ولكن، ما إن هبّت عليها نسائم الثامن من شهر كانون الأول الماضي، حتى تحوّلت إلى شعلة لاهبة يعمّ وهجها سائر البلاد السورية.
ولا شك أن حرص السوريين على استمرار توهّجها يجعلهم في عجلة من أمرهم على استكمال مسيرة التحرير، وذلك من خلال ما تشهده الأوساط السورية في داخل البلاد وخارجها من حراك مجتمعي، وندوات، وحوارات، ولقاءات رسمية وغير رسمية، وكذلك من خلال نشاط حكومي وعربي ودولي يهدف إلى إنضاج رؤى وتصوّرات وبرامج يمكن أن تسهم بعبور سوريا إلى ضفة الأمان.
ولكن، على الرغم من ذلك، فإن هذه اللهفة المشتعلة ما تزال مُهدّدةً بالانطفاء ما لم تحظَ بالحصانة المطلوبة، إذ لا يمكن تجاهل ولا إنكار كثرة الأفواه التي تحاول النفخ على تلك الشعلة بهدف إخمادها، ونعني بذلك جملةً من المخاطر الفعلية الداخلية التي لم تبرح الأرض السورية بعد.
هذه اللهفة المشتعلة ما تزال مُهدّدةً بالانطفاء ما لم تحظَ بالحصانة المطلوبة، إذ لا يمكن تجاهل ولا إنكار كثرة الأفواه التي تحاول النفخ على تلك الشعلة بهدف إخمادها
استحقاقات أمنية راهنة
ولعل في طليعة هذه المخاطر تلك التي تحول دون استتباب نعمة الأمان، التي ربما تكون الهاجس الأول للسوريين، إذ ما يزال شطرٌ كبير من الجغرافيا السورية خارج سيطرة الحكومة، بل ربما يكون هذا الشطر هو الجزء الأهم – اقتصادياً وأمنياً – بدءاً من الأطراف الجنوبية الشرقية لمدينة منبج، مروراً بالرقة وريف دير الزور ومحافظة الحسكة.
فتلك المساحات تشهد حرباً بلا هوادة بين قوات قسد وفصائل الجيش الوطني، يسقط من جرّائها عشرات الضحايا كل يوم، فضلاً عن حالات النزوح لسكان تلك المناطق هرباً من جحيم الحرب. وعلى الرغم ممّا يرشح عن أنباء حول مفاوضات تجريها قسد مع الحكومة الحالية في دمشق، إلّا أن ما يشهده الواقع الفعلي يوحي بمزيد من التصعيد من خلال حرص كل طرف على بسط نفوذه والإمساك بالأرض كمسارٍ ميداني موازٍ لمسار المفاوضات.
وما لا يمكن تجاهله أو إغفال خطورته أيضاً هو استمرار أعداد كبيرة من عناصر قوات نظام الأسد وميليشياته وفلول جيشه رفضها الانصياع لإرادة الدولة وتسليم السلاح الذي بحوزتها، بل ما تزال أعداد من هؤلاء مستعصيةً، سواء بين المدنيين في المدن والبلدات أو في شعاب الجبال ببعض القرى والبلدات. ولا شك أن استمرارها يجسّد تهديداً مباشراً لأمن المواطنين وعملهم ومصادر أرزاقهم، فضلاً عمّا يلازم تلك الفلول من مخابئ لإنتاج المخدّرات التي ما تزال تتكشّف يوماً بعد يوم، سواءٌ في مقار الفرقة الرابعة التي كان يتزعمها ماهر، شقيق الرئيس المخلوع، أو في أماكن تموضع ميليشيات إيران الطائفية ومشتقاتها اللبنانية والعراقية.
ما لا يمكن تجاهله أو إغفال خطورته هو استمرار أعداد كبيرة من عناصر قوات نظام الأسد وميليشياته وفلول جيشه رفضها الانصياع لإرادة الدولة وتسليم السلاح الذي بحوزتها
ولعل ما يفاقم من خطورة فلول النظام المستعصية والمارقة هو أنها أصبحت الرصيد الذي تراهن عليه إيران للنيل من المنجز التحرّري الذي حققه السوريون من جهة، وكذلك للثأر عن هزيمتها على الأرض السورية بعد نصف قرن من تحكّمها بالعلاقة العضوية مع الدولة الأسدية من جهة أخرى.
بل يمكن القول إن إيران، التي طردها ثوار سوريا من الأبواب العريضة، تريد الالتفاف لتتسلّل من الشبابيك. ولعل الأخبار المتواترة عن تزويد طهران لقوات قسد بالطائرات المسيّرة إنما تأتي في سياق سعي إيران إلى الانتقام من السوريين عبرَ حرمانهم من حالة الأمان التي طالما تطلّعوا إليها.
ولا يمكن، بحال من الأحوال، التقليل من شأن التردّد والتلكؤ الذي تبديه بعض الفصائل العسكرية، وفصائل الجنوب على وجه التحديد، من عدم رغبتها بحل نفسها وانخراطها في وزارة الدفاع التي تزمع الحكومة الراهنة تشكيلها أو إعادة هيكلتها، وذلك حرصاً منها، أو من قادتها، على تحقيق مكتسبات أو ميّزات ربما تكون ذات صلة بمناصب أو بمفاصل القيادة والمسؤولية.
وغير بعيد عن هذا المنحى في التردّد والتلكؤ، هو الخطاب الذي تصدّره للرأي العام بعض الزعامات الدينية أو العرقية، بذريعة ضرورة الحصول على ضمانات تكفل حقوقها، وهي في الواقع لا تخفي رغبةً دفينة بالانفصال عن الدولة السورية، الأمر الذي شجّعت عليه ومهّدت له دعوة وزير خارجية الكيان الصهيوني، جدعون ساعر، منذ ما قبل سقوط نظام الأسد.
لعل الأخبار المتواترة عن تزويد طهران لقوات قسد بالطائرات المسيّرة إنما تأتي في سياق سعي إيران إلى الانتقام من السوريين عبرَ حرمانهم من حالة الأمان التي طالما تطلّعوا إليها
في التعويل على الضامن الخارجي
لا ريب أن مجمل التحديات الأمنية المشار إليها أعلاه تجسّد استحقاقات كبيرة ومهمة تستوجب المواجهة. وهذه المواجهة لن تكون على عاتق السلطة الراهنة فحسب، بل ينبغي أن تُحشد لها جهود عموم السوريين، باعتبار هذه العملية استكمالاً لمشروع التحرير، مما يوجب على الجميع الخروج من المراوحة في المكان والاستنقاع في بوتقة التخوّفات والوساوس التي لن تُنتجَ إلّا التردّد، في الوقت الذي ينبغي فيه استثمار تلك الفرصة التي لا يمكن التفريط بها بحال من الأحوال.
قد يبدو من نافل القول أن التحفّظات التي تبديها كثير من الشرائح المجتمعية السورية يمكن تفهّمها، بل ربما بدت كثير من المخاوف أمراً مشروعاً إن كان ذلك كله يجري في سياق الانشغال بمستقبل البلاد والحرص على نظافة ونقاء العملية التحررية وسلاستها، وحرصها على تجنّب إراقة الدماء وتحاشي الدخول إلى الفوضى. وكذلك يمكن تفهّم ارتفاع نبرة الإحساس النقدي وضرورة أن تبقى الأنظار شاخصة تجاه سلوك السلطة بغية تقييمه وتقويمه والاعتراض عليه أو التنديد به أو تأييده.
ولكن، ما لا يمكن تفهّمه أو الركون إليه أن تتحوّل تلك التحفظات والمخاوف المشروعة إلى أجندة يهدّد أصحابها باللجوء إلى الخارج إن لم تجرِ وتيرة التغيير وفقاً لرؤاهم أو تصوّراتهم. فتلك مسألة أخرى، إذ لا يخفى أن أصواتاً بدأت بالارتفاع، منها ما يطالب بأن تجري العملية السياسية في البلاد، وما تتضمنه من استحقاقات كالدستور، وتشكيل حكومة انتقالية، وانتخابات، وما إلى ذلك، وفقاً للقرار 2254. إذ يرى أصحاب هذا المذهب أن الدور الأممي في تنفيذ القرار المذكور هو الضامن لحقوق السوريين.
ما لا يمكن تفهّمه أو الركون إليه أن تتحوّل تلك التحفظات والمخاوف المشروعة إلى أجندة يهدّد أصحابها باللجوء إلى الخارج إن لم تجرِ وتيرة التغيير وفقاً لرؤاهم أو تصوّراتهم
ولعل المفارقة المحزنة في هذا الطرح، هو أن القرار المشار إليه صدر في كانون الأول من العام 2015، وعلى مدى تسع سنوات من صدوره لم يكن ضامناً لقطرة دم واحدة لأي مواطن سوري، وكذلك لم يكن ضامناً للإفراج عن معتقل واحد من بين عشرات الآلاف من المعتقلين السوريين في سجون الأسد. كما أن الإشراف الأممي المفترض على هذا القرار لم يستطع إلزام نظام الأسد بأي شكل من أشكال المساهمة الفعّالة في العملية السياسية.
ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً: إذا كان القرار الأممي 2254، الذي وُجد ليكون عاصماً لدماء السوريين وداعياً للإفراج عن معتقليهم، وسبيلاً لإيجاد حل سياسي عادل لقضيتهم، قد أخفق أيما إخفاق فيما وُضع لأجله، فهل يمكن أن يكون ضامناً موثوقاً به لمستقبلهم؟
المصدر: تلفزيون سوريا