غزّة تعبر إلى “عملية تهدئة”

عاطف أبو سيف

دخلت التهدئة حيّز التنفيذ، ودخلت معها غزّة (والمنطقة) مرحلةً جديدةً لا يمكن وصفها بأنها “ما بعد الحرب”، ولكنّ الحرب كما نعرفها انتهت، وسندخل معها مرحلةً ربّما طويلة من حالة السكون التي تتّسم بالتوازن بين التوتّر والاستقرار، وقد نشهد بعد مراحل توضع فيها الأيادي على الزناد فترات قصيرة ثمّ ترتخي. مرحلة يمكن أن نطلق عليها “عملية التهدئة”، فالمهمّ هو العملية نفسها، وليست فكرة التهدئة. لا بدّ أن الإحالة على وضع مختلف واضحة هنا، وإن اختلف السياق. ولكن في ما يتعلّق بالتهدئة، يدخل سؤال النصر والهزيمة في باب المناكفات. وعليه، فهو ليس أكثر من نقاش لا يُجدي نفعاً، على الأقل في هذه اللحظات، إذ إن عين كل فردٍ في غزّة على فكرة وقف القتل ووقف الإبادة، حتى لو كان ذلك مؤقّتاً. ومع ذلك، “الصفقة” مهمّة لأنها أوقفت الإبادة التي تتم بحقّ الشعب الفلسطيني في القطاع، ولا نملك إلا أن نرحّب بها.
تزعم جميعُ الأطراف النصر، فنتنياهو انتصر وحركة حماس انتصرت وترامب انتصر والإقليم انتصر. لا بأس، حتى لو كان الأمر فعلاً كذلك، ما دامت الإبادة توقّفت وتوقّف القتل وارتاح الناس. الناس في حِلٍّ الآن من الزعم والتفاخر والجدل، يريدون أن يرتاحوا. لا بأس انتصروا كلّهم إلا نحن، وهذا أمرٌ لا يبدو من باب الاستعراض، إذ يرى كلّ طرف فعلاً نفسه قد انتصر، فنتنياهو انتصر كما يروّج لأنه نجح في “خلق” الظروف المواتية للضغط على “حماس” من أجل عقد الصفقة.

بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين قدّم ترامب نفسه شخصاً قوياً فيما خصومه عجزة فاشلون

الصياغات حمّالة أوجه وماكرة، فلولا العمليات الماضية، التي هُدمت خلالها جباليا وبيت حانون، وجرى فيها تقليص المنطقة “الآمنة”، والإجهاز على مقوّمات الحياة في غزّة، فإن “حماس” بالنسبة لنتنياهو ما كانت لتقبل بما كانت ترفضه قبل أشهر، ووقتها لم تكن غزّة قد أبيدت عن بكرة أبيها، مثلاً ترحيل الأسرى المفرج عنهم إلى الخارج وبقاء الجيش في أطراف غزّة. أيضاً، ظلّ نتنياهو متمسّكاً بحكومته التي صمد فيها في مراحل مختلفة بفضل هذه الحرب التي جاءته هديةً من الربّ، فلولا الحرب لسقطت تلك الحكومة مُبكّراً، وها هو حالياً يدخل مرحلةً جديدةً لم تستطع فيها حتى المعارضة انتقاده على ما أقدم عليه من صفقة “تأخّرت” بالنسبة لها. لقد نجح في “تنشيف” ريق الجميع حتى صار قبوله بالهدنة “تنازلاً” منه لمطالب المعارضة والشعب، وربّما الأهم بالنسبة إليه أنه ضمن (وهذا يجب أن يكون موضع شكّ) أن علاقته مع السيّد العائد إلى بيته الأبيض ستكون مستقرّةً ومجديةً وسيلقى دعماً قوياً منه.
فيما ترامب الذي وعد بأنه سيدخل البيت الأبيض على وقع الفرح والسعادة بإطلاق سراح الأسرى حقّق ما يريد، وقدّم نفسه شخصاً قوياً قادراً على فرض وجهة نظره، فيما خصومه، خاصّة الرئيس المنصرف جو بايدن، بدوا عجزةً فاشلين، والأكثر أهميةً أنهم كانوا داعمين للقتل والحرب في غزّة. هذا لا يعني أن ترامب مُحبّ للسلام أو للفلسطينيين، بل على العكس، فآخر ما قد يوصف به ترامب أنه مُحبّ للسلام أو أنه مؤيّد لأيّ حقوق فلسطينية، لكن المهمّ بالنسبة إليه في هذا صورته عن نفسه وأمام الآخرين، فهو شخصٌ قوي يهابه الجميع ويخشونه، ويحسبون له ألف حساب. الكلّ يعرف أنه لولا ضغط ترامب لما حدثت الصفقة، ولولا خشية جميع الأطراف لما جلسوا مواصلين الليل بالنهار من أجل الوصول إليها. بدا ترامب مثل “بعبع” يتجنّبه الجميع، ويسعون من أجل تنفيذ ما طلبه، حتى لا يتحقّق ما هدّد به من حرق كلّ شيء، كما بدا من عباراته، لقد وفى بوعده لناخبيه من أصول لبنانية بأن يوقف الحرب بعد انتخابه، وفعل، وبدأت عملية إطلاق سراح الأسرى كما وعد (لأن أربعةً منهم يحملون جنسيةً أميركية) ووفى بذلك. هكذا سيبدأ ترامب مرحلته الثانية في البيت الأبيض، وبقدر تدخّله الحازم في الشرق الأوسط يدقّ جرس الإنذار في أوروبا التي ستأخذ ملاحظاته حول مستقبل حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وعدم الحاجة إليه، وعدم فعّاليته، على محمل الجدّ، ناهيك عن وجهة نظره من الحرب في أوكرانيا، إلى جانب فرض الضرائب على الصادرات الخارجية من كندا مثلاً. الصفقة في غزّة لكن تداعياتها تقول على الجميع أن يُؤخذ ترامب على محمل الجدّ.
وبالنسبة إلى “حماس” مُجرَّد بقائها في الحكم واستمرارها طرفاً مقرّراً في مصير غزّة انتصار. ليست الحقائق في الأرض مهمّة بالنسبة لقيادة الحركة ما دامت فصيلاً قادراً على الحديث باسم غزّة، والإنابة عن الغزّيين في كلّ شيء يتعلّق بمستقبل حياتهم. وتظل فكرة مقاربة الربح والخسارة غير واردة حتى لو نتج عن الصفقة إخراج أسرى لا يتجاوز عددهم نصف من جرى اعتقالهم بعد 7 أكتوبر (2023)، وتم إبعادهم إلى الخارج في عملية معاكسة للحلم الفلسطيني القائم على العودة إلى البلاد، وليس النفي منها، وحتى لو صارت مطالبنا تتمثّل في العودة إلى ما قبل مايو/ أيار 2024، قبل احتلال معبر رفح، وليس إلى ما قبل “7 أكتوبر” أيضاً. ليس هذا كلّه مهمّاً، وهو في الحقيقة لا يعني إلا من مسّتهم نار الحرب. أمّا في ما يخص “حماس” فقد فرضت نفسها، وبقيت قادرةً على الحديث، ويمكن ترجمة مفهوم الصمود والانتصار بعبارات وإحالات عديدة مثل أن إسرائيل فقط، وفي حالات نادرة (ربّما في حالة واحدة) لم تتمكّن من تحرير أسرى إسرائيليين من غزّة، لأن “حماس” ظلّت قادرةً على منع وقوع ذلك، ومن ثم حقّقت هدفها الأوّل من 7 أكتوبر (2023) المتمثّل بتحرير الأسرى.

انتصرت غزّة، وأهلها الذين أفشلوا مشروع التهجير وحافظوا على ما تبقّى من الساحل الفلسطيني رغم عذابات الحرب

كل شخص يدير النار على قرصه، كما يقول المثل الشعبي الفلسطيني. في المحصّلة، ربح الجميع، حتى لو خسرت غزّة، حتى لو جرى تدميرها، وحتى لو تقلّص عدد سكّانها قرابة 3% إلى 4% (بحسب العدد النهائي للمفقودين)، وحتى لو ازداد عدد الأسرى في السجون. ولكن في المحصلة من انتصر هي غزّة، وأهلها الذين أفشلوا مشروع التهجير وحافظوا على آخر ما تبقّى من الساحل الفلسطيني رغم مرارات الحرب وعذاباتها. الذي انتصر هم الشهداء الذين صمدوا في بيوتهم، لأنهم منزرعون مثل الأشجار في الأرض، هؤلاء من ربحوا البيع، فهم الذين عرفوا معنى أن تتنظر موتك لأنك تريد للقضية أن تظلّ حاضرة. على الصعيد الوطني، لا شيء يمكن حسابه، لأن التضحية من أجل البلاد سمة كلّ شعبٍ تحت الاحتلال، فهو لا يتوقّع ولا ينتظر “الجاتّو” من عدوه. ومع ذلك، ثمّة نقاشٌ وطني لا بدّ من فتحه من أجل مراجعة كلّ ما جرى، ومن أجل الوقوف على بواطن الأمور.
بقي أن هذه الصفقة تعني “تدجين” حركة حماس وإخضاعها لنظام المفاوضات، وإن كانت تحاول أن تقدّم نفسها نموذجاً مختلفاً عن مفاوضات أوسلو (1993)، فيما في الحقيقة أن نموذج الهدنة مصمّم وفق نموذج أوسلو، فبدلاً من “عملية السلام” أصبح لدينا “عملية التهدئة”. انتبهوا هذه العملية مقسّمة أيضاً بين مراحل، كما أن ثمّة قضايا راهنة وقضايا جرى تأجيلها إلى الحلّ النهائي، كما أن الجيش لا ينسحب من المناطق كلّها، وسيكون ثمّة تقسيم للمناطق ليس على طريقة “أ” و”ب” و”ج”، بل بطريقة مختلفة. “حماس” ومفاوضوها، عندهم حساسية من مصطلحات أوسلو، ولكن تذكّروا هذه المرّة المفاوضات عن غزّة وحدها، ووحدها ووحدها، وهذه أكبر ثمار الحرب (المعطوبة) فلا يوجد حالة وطينة واحدة، وأظنّ أننا فشلنا في حوارنا الفلسطيني الداخلي الماضي في أن نخفّف قليلاً من تداعيات هذا السياق الجديد.
هل ثمّة فرصة لاستعادة الوحدة الوطنية؟… تفكّر الناس في غزّة حالياً في حياتها المُقبلة، وفي لملمة جراحها، والبحث عن جثامين من فُقِدوا، وإعادة دفن من دفنوا تحت الركام أو في جوانب الطرقات. وعليه، من الأفضل للفصائل أن تفكّر في كيف تكون عوناً لهم في ذلك، وتبحث بجدّية في مستقبل أفضل للبلاد، حتى يتمّ إنقاذ ما يمكن إنقاذه.

 

المصدر: العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى