يسود اعتقاد بأن معتقلي سجن صيدنايا الإسلاميين، في سنوات قبيل الثورة، كانوا نوعين؛ قلة من عتاة المجاهدين المخضرمين العائدين من أفغانستان، وجمهور من الشبان قليلي التجربة العائدين من تجربة عاطفية متحمسة في العراق، شجعتهم عليها سلطات دمشق ثم بادرت إلى احتجازهم عند عبورهم الحدود وهم في طريق العودة.
وداخل “المختبر” المزعوم لصناعة الإرهاب في هذا السجن أتاحت المخابرات السورية للأولين أن يؤثروا في الأخيرين فيصلب عودهم في طريق الجهاد فكراً وسلوكاً، والحال أن ما سبق مجموعة من الأوهام المتراكبة التي يعضد بعضها بعضاً، وتتقوى بمدى ذيوعها حتى صارت في مصاف المسلّمات.
كمقدمة لا بد منها نستعرض تاريخ السلفية الجهادية في سوريا، فقد خلّفت “أحداث” الثمانينيات مئات من الشباب الإسلامي في خارج البلاد، ممن نجوا من التصفية والاعتقال، ووجدوا أنفسهم أمام خيارَي متابعة الحياة المعتادة؛ دراسة وعملاً وزواجاً، وهو ما فعله أكثرهم، أو الاستمرار في الخط الفدائي في “ساحة” أخرى كانت قد انفتحت في أفغانستان، وهو ما اختارته قلة منهم تابع أفراد منها حتى نشوء التيار السلفي الجهادي في أوساط المقاتلين العرب هناك، وأسهموا حتى تأسيس “القاعدة”.
تغير هذا الوضع فجأة، كما في أرجاء العالم الإسلامي تقريباً، عندما ضربت الطائرات برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، مؤذنة ببزوغ نجم (أسامة بن لادن) كطبعة مزدوجة جديدة عن المجاهد القادم من الصحراء إلى الجبال..
خلال تلك السنوات، التي امتدت لعقدين، كانت سوريا تعيش في دوائر متعددة من التعقيم الأمني؛ ضد العمل السياسي عموماً والإسلامي منه بشكل خاص، وضد التيار السلفي فضلاً عن طبعته الجهادية، لكن ذلك كله لم يمنع أفراداً متناثرين في أنحاء البلاد من أن يجدوا طريقهم إلى أفغانستان، بتواتر غير ملحوظ ومن دون تفكير في العودة.
تغير هذا الوضع فجأة، كما في أرجاء العالم الإسلامي تقريباً، عندما ضربت الطائرات برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، مؤذنة ببزوغ نجم (أسامة بن لادن) كطبعة مزدوجة جديدة عن المجاهد القادم من الصحراء إلى الجبال، وعن المناضل الأممي ضد الغرب.
منذ ذلك الوقت لم تتوقف نقاشات مجموعات متفرقة من الشباب، في البيئات العربية السنّية السورية، عن تناول موضوع الجهاد، والاجتماع سراً لمشاهدة إصداراته الفيلمية، والبحث عن الطريق للالتحاق به، والذي كان يزداد صعوبة في ظل الحرب العالمية على الإرهاب، حتى أتاح الغزو الأميركي للعراق، بعد أقل من سنتين، فرصة أن يصبح الجهاد في متناول اليد.
وإذ تزامن ذلك مع تشجيع السلطات السورية، لأسبابها الخاصة بالطبع، على القتال في هذا البلد الشقيق المجاور؛ لم يعد مطلوباً من الشاب سوى أن يسافر، علناً في الغالب، إلى الحدود حتى ينخرط في العالم المشتهى للرصاص والدماء والإثخان في الأعداء.
لكن الواقع كفيل بتدمير كل المتخيلات، فقد سقطت بغداد في وقت قياسي، ووجد آلاف المتطوعين أنفسهم تائهين قيمياً وواقعياً، وأخذوا طريق العودة الخائب بعد زمن طال أو قصر، ولا سيما قبل تبلور فصائل المقاومة العراقية وإمكانية البقاء هناك ضمن الشبكات المحلية.
لكن “لفحة” الجهاد التي مست أرواح بعض هؤلاء العائدين، وخاصة من تلقى تدريباً على استعمال السلاح أو استخدمه بالفعل، حالت بينهم وبين العودة إلى وعثاء الحياة “الدنيا”، فأخذوا يتقاربون في مجموعات هدفت إلى تقديم الدعم اللوجستي ومتعدد الأشكال للساحة العراقية، وراودت بعضها الآخر أفكار ومخططات للعمل الداخلي ضد النظام.
في تلك المرحلة، التي بلغت ذروتها ربما بين عامي 2005 و2007، أخذت بعض هذه المجموعات بالتدريب والتسليح وأحياناً التنفيذ، في عمليات كان الإعلام الرسمي يعلن عنها من دون أن يصدّقه أحد بسبب تاريخه الطويل في الخديعة، في حين كان سجناء صيدنايا أكثر من عرفوا جدية هذه العمليات، لأن منفذيها كانوا يصلون إلى هذا السجن، بعد مسار التحقيق والتعذيب لدى المخابرات، ويُعرَفون بأسماء الدعاوى التي اعتقلوا بسببها ويروون وقائعها لزملائهم المعتقلين.
ومن هذه التُهم قضايا كانت تعدّ محض خرافات في الوسط السياسي والإعلامي والشعبي خارج الذاكرة الخاصة بهذا البناء، فمنها، مثلاً، الدعوى الأكبر عدداً لتنظيم “جند الشام”، و”دعوى الإذاعة” حين هاجم بعض اليافعين من ريف دمشق مبنى الإذاعة والتلفزيون أملاً في بث خطب إسلامية في عام 2006، و”دعوى القمة” عندما خطط شبان من حمص لتفجير مقر انعقاد القمة العربية المزمع عقدها في دمشق في سنة 2008، وعدة دعاوى باسم “القاعدة” يرتبط معظمها بالصلة مع تنظيم أبي مصعب الزرقاوي في العراق لا مع “القاعدة” الخراسانية.
ندرة من معتقلي سجن صيدنايا “الإسلامي”، أي من نزلائه في تلك المرحلة والذين قام عليهم مجتمع “الاستعصاء” الشهير في عام 2008؛ كانوا قد عرفوا أفغانستان، وندرة من كانت لهم أدوار شبه وازنة في العراق.
وإذا أردنا التعيين أكثر ربما يفيد ذكر ثلاثة أسماء لعبت أدواراً رئيسية في قيادة مرحلة الاستعصاء، كلٌّ في تياره بعد أن تمايز الجهاديون إلى مجموعات ثلاث، وهم أبو حذيفة الأردني وأبو خالد العراقي وأبو العباس الشامي.
فقد تزعم الأردني، إبراهيم عبد الظاهر، التيار المتوسط في السجن الذي عُدّ أميرَه في وقت ما، نتيجة لعلاقة كان يروي عنها مع الزرقاوي، من دون أن يظهر اسمه في الأدبيات الجهادية العراقية أو تبدو عليه، في سجن صيدنايا، علامات فارقة في القيادة أو حضور شخصي خاص، وقد أُعدم نتيجة لتجدد محاكمته بعد الاستعصاء لاتهامه بأنه أحد “رموز التمرد الذين كان لهم دور أساسي في أحداث الشغب والعصيان”.
لم يحوِ سجن صيدنايا مرجعيات جهادية كبيرة؛ إمّا لأن أشخاصاً من هذا النوع لم يقعوا في أيدي المخابرات السورية، وهو الغالب، أو لأن مكانهم هو الفروع الأمنية إن وجدوا..
أما العراقي، حسن فرحات، فقد تزعم التيار المتشدد بناء على ما وصف به من تصلب رغم بساطته الشخصية، لا اعتماداً على كاريزما أو علم، وهو تركماني من تلعفر، كحال بعض قيادات داعش، وقد قُتل في الاقتحام الأخير الذي أنهى الاستعصاء.
وفي حين أن الشامي، محمد أيمن أبو التوت، كان الأكثر علماً وخبرة بين الثلاثة وفي السجن على العموم؛ فإنه كان متهماً من خصومه بالنزوع إلى المسالمة والتفاوض وفق ميول إخوانية، والتهمة الأخيرة منقصة كبيرة في الجو السلفي الجهادي، وقد تزعم التيار الهادئ الذي يميل إلى الحلول الوسط، وبعد خروجه من السجن لعب دوراً مرجعياً في تأسيس حركة “أحرار الشام الإسلامية”، ثم اعتزل العمل العام قبل أعوام.
لم يحوِ سجن صيدنايا مرجعيات جهادية كبيرة؛ إمّا لأن أشخاصاً من هذا النوع لم يقعوا في أيدي المخابرات السورية، وهو الغالب، أو لأن مكانهم هو الفروع الأمنية إن وجدوا.
ولم يتعرض الشبان الصغار لتأثير ممنهج يختلف عن ذلك الذي كانوا يسيرون في تحصيله في ظرفهم المعتاد قبل السجن، وقد خرج بعضهم، وخاصة أولئك الذين اعتقلوا بتهم ثانوية كالتستر أو تصفح مواقع إسلامية محظورة على الإنترنت أو تداول السيديات الجهادية، كما دخلوا، عواماً في الحياة وفي الممات..
المصدر: تلفزيون سوريا