قد يكون من التسرع الكتابة عن حدث ضخم بحجم انفجار بيروت الذي لم يعرف مدى أضراره، الممتدة على كامل بيروت، أعداد البشر الضحايا والجرحى والمصابين، وعلى التدمير في البنية التحتية.. الخ. لكن ومن منظور الرؤية الاستراتيجية للانفجار؛ ما قبله من ظروف لبنان ونفقه المظلم الذي يقبع به، وما يواجه من تحديات على كل المستويات، وما يعني من تداعيات لهذا الحدث النوعي، وأفق لبنان للمستقبل القريب والبعيد.
أولا: لبنان قبل الانفجار
لم يكن لبنان كدولة ومجتمع في حالة استعصاء وأفق مسدود في أي فترة سابقة، كما هو الان؛ فعلى المستوى الداخلي هناك إفلاس اقتصادي كامل؛ البنوك فارغة من الدولار، وأموال المودعين تبخرت بانهيار العملة الى مستويات كبيرة جدا. غياب التغطية الإقليمية والدولية للدولة اللبنانية، من خلال الدعم الاقتصادي، الذي اعتمدت عليه سابقا وعبر عقود، حيث توقف الإمداد الخليجي كمساعدات مالية وعينية، كذلك المساعدات الامريكية والأوروبية، وحتى صندوق النقد الدولي صار حذرا من مزيد من الاقراض للبنان بعد ان وصلت ديونه الى مستوى لم يعد الوارد اللبناني قادرا أن يوفي التزامات فوائد هذه الأموال للبنوك المانحة. زاد الطين بلّة وباء كورونا وتوقف السياحة اللبنانية التي تعتبر أهم وارد اقتصادي للبنان. أما لماذا قطعت كل الدول الخليجية وأمريكا وأوروبا الامداد المالي للبنان، فهو جزء من السياسة الامريكية الحاكمة للكل، والتي تعتمد على حصار إيران وتجفيف منابع اقتصادها وقوتها في إيران ذاتها وفي الدول التي تمد أذرعها فيها، خاصة لبنان والعراق وسورية واليمن. أمريكا ومنذ مجيء ترامب اعتبرت القوة الإيرانية وامتدادها في هذه الأقاليم يضر بمصالحها القومية ومصالح حليفها الاستراتيجي في المنطقة (إسرائيل). هذا بخلاف سياسة اوباما الذي أطلق يد إيران في المنطقة وكان هدفه الحصول على اتفاق نووي يمنع إيران من الحصول على السلاح النووي. المهم بما يتعلق في لبنان قررت أمريكا وحليفتها (اسرائيل) أن تحاصر الدولة اللبنانية من أجل دفع الدولة اللبنانية والشعب اللبناني لمواجهة حزب الله وبقية المصالح الايرانية في لبنان، خاصة بعد أن كُشف حزب الله بأنه اداة حرب وقتل للشعوب بيد إيران والنظام السوري في سورية والعراق واليمن، وبالتالي خديعة محاربة العدو الصهيوني لم تعد تغطي أفعال الحزب داخل لبنان وخارجه. واضيف الى ذلك تغير مجتمعي سياسي لبناني وهو نزول الشعب اللبناني بكل أطيافه الى الشارع يطالب بحلول جذرية لكل مشاكله السياسية والمجتمعية؛ لقد طالبوا بتغيير الدستور الذي خلق محاصصة طائفية وحصول اقطاع سياسي وتبادل ادوار ومنافع على حساب الشعب اللبناني بكل أطيافه، مطالبة بتغيير الصيغة السياسية للدولة اللبنانية، لذلك دفعوا بحكومة سعد الحريري للاستقالة، ولم يقبلوا بحكومة حسان دياب واعتبروها استمرارا لذات الحال السابق. كشفوا الغطاء عن الفساد والهدر والسرقات، وكانت خاتمة الكوارث الانهيار الاقتصادي وسقوط العملة وإفلاس البنوك، وجهوا اتهامهم لحزب الله وانه يصادر الطائفة الشيعية اولا والدولة اللبنانية ثانيا، لصالح طبقة سياسية وعسكرية ضيقة متحالفة استراتيجيا مع إيران وعلى حساب الشعب اللبناني تحت دعوى انكشف تهافتها؛ (مواجهة العدو الصهيوني). وزاد الموضوع تأزّما إطلاق يد (اسرائيل) في لبنان وسورية لمواجهة أي هدف لحزب الله وإيران تراه يضر بمصالحها أو يغير معادلات القوة، ويدفع باتجاه تأزيم الوضع مع حزب الله والاستعداد لحرب طويلة الاجل معه، مع التنويه أن (اسرائيل) تقول دوما انها ستحاسب لبنان كله على اي فعل عدواني من حزب الله اتجاهها.
تناغمت وتكاملت كل تلك العوامل لتجعل الشارع اللبناني مأزوم معيشيا ويبحث عن مخارج ويخرج للشارع ويطالب بتغييرات جذرية في السياسة اللبنانية، و لتمنع أمريكا وحلفاءها أي مساعدة مالية توازن حياة الناس، اضافة لعجز ايران المحاصرة اقتصاديا أن تقدم دعما ماليا يعوض غياب الدعم الدولي، ولاستباحة لبنان الأرض والجو من قبل (اسرائيل)، واظهار أن كل مصائب اللبنانيين هي من حزب الله وحليفته ايران، وأنه يجب أن يكف عن كونه دولة ضمن الدولة اللبنانية، ويجب سحب سلاحه واعادته للدولة اللبنانية، وتحول مهام حماية الحدود اللبنانية إلى الدولة وليس حزب الله او غيره. كل ذلك يعني وكأن العالم كله يطالب حزب الله بالانتحار السياسي ونزع قوته من يده طوعيا وبالضغط المجتمعي والدولي، وهذا غير ممكن إن لم يقترن بقوة لمواجهة حزب الله، إن كانت داخلية فهي مقدمة لحرب اهلية، مع العلم أنه لا توجد قوة داخلية قادرة على ذلك، ولا توجد قوة خارجية مؤهلة أن تفعل ذلك سوى (إسرائيل)، وهذا يتطلب متغيرات استراتيجية كبيرة تعيد تحريك الحالة اللبنانية المتأزمة. لذلك كان لا بد من حدث كبير يعيد خلط الأوراق ويصنع آفاقا جديدة.
ثانيا: الانفجار
المعلومات الاولية من شهود عيان ومن الفيديوهات المصاحبة للتفجير تؤكد أن التفجير حصل على دفعتين الأول وكأنه تفجير اولي استهدف الكتلة المخزنة في المرفأ لمواد متفجرة قيل إنها مصادرة منذ سنوات ومخزنة هناك. لن نتوسع في موضوع المصادرة ممن تمت المصادرة؟ وبماذا كانت ستستخدم هذه المواد شديدة الانفجار؟ ولا عن شروط التخزين؟ ولا الاختراق الأمني بالوصول للمواد وتفجيرها بالإهمال أو بالعمل المقصود؟ ومن ثم صناعة هذه الكارثة في لبنان. كل ذلك لا بد أن يجد إجابات في قادم الايام. لكن الأهم هو أن حجم الانفجار والكارثة الناتجة عنه، سواء في عدد الضحايا والمصابين والخراب في البنية التحتية اللبنانية، أراد الذين صنعوا الانفجار القول للبنانيين أنكم ضحية عدو يستهدفكم جميعا، وأنكم مطالبين أن توجهوا أصابع الاتهام له، وأن تتكتلوا لمواجهته، وأن تتجاوزوا الصراعات الداخلية، وأن تواجهوا العدو الجاهز أن يتهم الأفعال الضارة بلبنان وهو (إسرائيل)، وبالتالي توحيد كل الجهود لدعم حزب الله المقاوم للعدو الصهيوني والمدافع عن لبنان وشعبه، وأن تتكتل القوى السياسية والشعب اللبناني لمواجهة هذا العدو وأن يترفّع الشعب اللبناني عن مطالبه الحياتية والدعوة للتغيير على كل المستويات، وأن ينسى قصة نزع سلاح حزب الله، وان يتكتل مع حزب الله لمقاتلة العدو الصهيوني. يعني إن الهدف المركزي لهذا التفجير اعادة شرعنة وجود حزب الله وسلاحه وقوّته لقتال عدو ما زال متربصا بلبنان وشعبه؟
ثالثا: هل (إسرائيل) من قام بالتفجير في بيروت؟
منذ أن ظهر حزب الله وأعلن استراتيجية مواجهته لاحتلال العدو الصهيوني لبعض الجنوب اللبناني وعمله العسكري ضدّه وتتويج ذلك بعد حرب تموز ٢٠٠٦م بتوافق عبر الوسيط الأمريكي على صمت امريكا و(اسرائيل) عن وجود وتغوّل وسيطرة حزب الله على لبنان وفيه، مقابل هدوء وهدنة متوافق عليها على الحدود اللبنانية مع فلسطين المحتلة. وكانت توجت هذه التوافقات حزب الله بطلا لتحرير الشريط الحدودي الجنوبي للبنان. استمر هذا التناغم الضمني بين حزب الله والعدو الصهيوني والقوى الدولية والاقليمية على دوره اللبناني في الهدنة على الحدود مع (اسرائيل)، وسيطرة حزب الله على الدولة والمجتمع، وتناغم وجوده ودوره مع النظام السوري وإيران في لبنان، الى أن جاء الربيع السوري وحصلت الثورة في سورية، ووقوف امريكا و(اسرائيل) متحفظين ورافضين للثورات العربية عموما؛ لما تأتي به من ديمقراطية وحكومات تغير معادلات التوافق والتناغم العلني والسري مع ( اسرائيل) و الانظمة الاستبدادية العربية المحققة لمصالح الغرب وأمريكا في منطقتنا، لذلك كان اللقاء الثلاثي بين نتنياهو وأوباما وبوتين للعمل على مواجهة الثورة السورية وإطلاق يد روسيا وإيران في منع سقوط النظام السوري أمام الثوار الذين حرروا اغلب سورية من سيطرة النظام، لذلك صمتت (اسرائيل) عن دور حزب الله وايران في سورية، وكانت فرحة بالنتائج الكارثية لمحاربة النظام للشعب والاستعانة بالروس بعد ذلك ؛ من قتل الشعب السوري وتشريده وتدمير بلاده، والارقام تتحدث عن الملايين. استمر ذلك الى أن جاء ترامب الذي استفاد من مرحلة اوباما وتقييد المشروع النووي الايراني، وقرر تحجيم الدور الايراني الممتد في لبنان سورية والعراق واليمن، واعطى (لإسرائيل) بالتناغم مع روسيا الضوء الأخضر لتضرب أي هدف تراه يؤثر عليها استراتيجيا. سواء من استحضار سلاح نوعي من إيران وحتى روسيا، وكانت ارض لبنان وسورية مستباحة للقوة العسكرية (الإسرائيلية) في تنفيذ هذه السياسة، نعم قتلت أفرادا ودمّرت منشآت واسلحة، منعت أي عمل من الجولان جنوب سورية ضدّها وكانت كل الوقت تعلن أنها ستواجه أي عمل يهدد امنها من طرف حزب الله وإيران، كل ذلك بغطاء أمريكي وصمت روسي. لكن متغيرا حصل منذ فترة وجيزة، لم يعد حزب الله وإيران قادرين على تحمل عربدة (إسرائيل) في مواجهتهم، لذلك صرّح نصر الله مهددا (اسرائيل) بالرد بعد قتل أحد قيادييه في سورية، وكان رد (اسرائيل) عمليا وهو التهديد برد صاعق يدمر حزب الله ولبنان، وبدأت (اسرائيل) بالتحشيد في الجنوب اللبناني لحرب مفتوحة مع لبنان وحزب الله، ولسان حالها يقول لقد تغيرت قواعد اللعبة وأن التوافقات السابقة ستكون في مهب الريح، وأن أي مغامرة من حزب الله قد تعني استئصاله وحرب مفتوحة على لبنان المنكشف على كل البلايا والكوارث.
رابعا: جاء الانفجار لينقذ حزب الله ويضع لبنان والمنطقة أمام احتمالات
إن من صنع الانفجار وضع لبنان كله أمام حالة اتحاد عفوي طبيعي ضد من صنع هذا الانفجار و(اسرائيل) كعدو تاريخي ومتربص بلبنان موجودة لتكون هذا العدو المتهم بأنه هو من صنع الانفجار. ورغم أن (مسؤولا اسرائيليا) صرح انه لا علاقة لهم بهذا الفعل، لكن من يصدق العدو؟ لذلك سيعود للأذهان عند اللبنانيين أن الدعوة لنزع سلاح حزب الله وتحجيمه أصبح مطلبا متسرعا، فالعدو مازال يضرب لبنان، وقد يخرج حسن نصر الله في اي وقت ليعلن استعداده وحزبه الدفاع عن الشعب اللبناني المكلوم ويصنع بطولة اعلامية وشرعية جديدة كانت اهدرتها سنوات الهدنة مع العدو الصهيوني، قد يهدد ويتوعد وقد يقوم ببعض التحرش (بإسرائيل) التي ستفكر ألف مرّة قبل الرد، لأنها وعلى فرض صنعت الانفجار، لا تريد أن تؤكد تورطها بذلك. فما بالك انها قد لا تكون صنعته.
الشعب اللبناني سيعود خطوة ليرمم جروحه، وليفكر بتحديد عدوه، هل هو نظام المحاصصة الطائفية ؟، أم الفساد؟، أم حزب الله المسيطر على الدولة بالقوة العسكرية؟، ام الهيمنة الايرانية والسورية على حزب الله والدولة اللبنانية؟، أم العدو الصهيوني المتربص بلبنان؟، وبالتالي تختلط اولويات الشعب اللبناني حول ضرورة نزع سلاح حزب الله وتحويله لحزب سياسي فقط، وعودة قوة الفعل العسكري للدولة اللبنانية حصرا. سيلتحق بعض اللبنانيين بالحاضنة الشعبية لحزب الله، ويصبح مرّة اخرى منقذا للشعب اللبناني من عذاباته، عبر دمه المسفوح بالانفجار، وتبعاته الحياتية عليهم، والى مدى بعيد.
أخيرا:
قيل في علم الاستراتيجيات: قل من يستفد من أي حدث سيكون هو من صنعه. ولن اتسرع بالقطع من يقف وراء هذا الانفجار وأوضحت أغلب الاحتمالات لكن ما بعد الانفجار. قدم ظرفا جديدا شكل طوق نجاة لحزب الله وحلفائه سورية وإيران، وأنّ ما راهنوا عليه عبر عقود – ولو ادعاء كاذبا- لم يتغير وهو أولوية الصراع مع العدو الصهيوني، طبعا بعد أن يحملوه مسؤولية التفجير بشكل مطلق.
و سيكون هذا التفجير ردا على قرار محكمة اغتيال الحريري التي قد تدين عناصر من حزب الله وقد تومئ للنظام السوري وإيران. ويكون الجواب لدى حزب الله وحلفائه جاهزا: إن الحلف الغربي مع العدو الصهيوني هؤلاء هم من فجّر في بيروت اليوم، ومن قتل الحريري سابقا، وأن هؤلاء الأعداء يريدون أن يوصموا المقاومة بما فعلوا.. الخ. سيكون حزب الله وحلفاؤه أبطالا على دمار بيروت وضحاياه مجددا.
وسيعود الشعب اللبناني للتشتت الذهني -ولو مؤقتا- حول اولوياته ومطالبه. هل هو في مواجهة مع العدو الصهيوني وعبر حزب الله وحلفاؤه كما يشيع حزب الله، أم من خلال تغيير المعادلة الطائفية في لبنان والغاء الاقطاع السياسي، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، وسحب سلاح حزب الله وتحويله لحزب سياسي يدخل العملية الديمقراطية ككل القوى السياسية الأخرى.
نعم سيدرك الشعب اللبناني عاجلا أن الانفجار مقصود به تفجير مسار التغيير الذي خطّوه بجهدهم ودماء شهدائهم واصرارهم على ما يريدون، وأنهم سيتجاوزون هذا المأزق، ويعيدون رص الصفوف للتقدم إلى أهدافهم، ولو تطلب الأمر أن يوجهوا أصابع الاتهام لحزب الله بالتساوي مع (اسرائيل)؛ بانه صنع هذا الانفجار ليستمر حاكما مطلقا للبنان، ويبقى لبنان رهينة للحزب والنظامين السوري والإيراني حتى اشعار آخر.
نرى في الثورة السورية أن ربيع لبنان امتدادا للربيع العربي، وأن انتصار ربيع لبنان و مطالبه هو انتصار للثورة السورية، فكما حزب الله اداة في يد النظام لقتل الشعب السوري، كذلك انتصار الربيع اللبناني هو قطع ليد حزب الله في لبنان وسورية، وتقدم نوعي على طريق اسقاط النظام الاستبدادي المجرم في سورية ومحاسبته وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية العادلة، واسترداد سورية لشعبها، وطرد المحتلين منها، وعودة الملايين من اهلها إليها، المهجرين قسرا في كل بقاع العالم وانتصار لدماء الشهداء وتعويض معنوي لكل مظلوم من الشعب السوري.
اشكرك اخي د عبد الكريم…
متفق مع تحليلك، المهم بالنسبة لنا تشخيص واقعنا بشكل صحيح، ومن ثم التصرف العلاقي المناسب وبادواته الصحيحة.
بالنسبة لاعداء امتنا العربية وشعبنا السوري هناك تكامل في الادوار بين أمريكا وروسيا وايران والكيان الصهيوني، أنا الانظمة المستبدة العربية والغرب عموما فهم ضمن سياق الحلف الامريكي الصهيوني.